وصول سفينة وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المُسال «energean power» إلى المنطقة الحدودية البحرية مع لبنان، من جهة فلسطين المُحتلة، شكّل دليلاً إضافياً على أسوأ إدارة لأخطر قضية في لبنان على المستويَين الاقتصادي والأمني - الاستراتيجي. فجأة، قفزَ ملف الترسيم إلى الصدارة، وفرضَ نفسه على جدول الأعمال اليومي للقوى السياسية، ليحتدِم من جديد صراع النفط والغاز مع العدو الإسرائيلي إثر «تسريبات»، مجهولة المصدر، تحدثت عن دخول السفينة إلى المنطقة المتنازع عليها، ما عزّز استنفار الدولة لحماية حقوقها النفطية، علماً بأن وصول السفينة لم يكُن مفاجئاً بل يدخل ضمن مسار طبيعي للعمل الذي يستكمله العدو، فيما الدولة «مطنّشة»، وقد تعاطى خصوم حزب الله مع هذا التطور على أنه «فرصة» لاستدراجه وتوريطه في حرب، فوقفوا إلى يسار «الممانعة» وذهبوا إلى ما بعدَ بعدَ الناقورة للتشديد على أن الخط 29 هو الخط الحقوقي... وبدأت حملة المزايدات.قبلَ أن تفرك الدولة عينها لتبنّي موقف يستنِد إلى وقائع حقيقية، وقعت تحت تأثير صدمة سلبية، واضطرت إلى الانقلاب على نفسها وعلى مسار من التراجعات اتّسمَ به تعاملها مع هذا الملف، فعادت من «باب المزايدة» إلى الكلام عن الخط 29، علماً بأن الدولة نفسها هي من وضعت تعديل المرسوم 6433 وراءها، وأهملت الملف منذ تجميد مفاوضات الناقورة، ومن ثم انسحاب الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين بسبب عدم توحدها خلفَ موقف موحد. وهي، حتى اللحظة، لا تزال عاجزة عن اتخاذ قرار حاسم للتعامل مع آخر التطورات، ما أدى إلى تخبطها ودفعها في الأيام الأخيرة إلى التراجع مجدداً إلى الخط 23، والاستنجاد مجدداً بالوسيط الأميركي الذي «ليسَ مؤكداً أنه سيزور بيروت نهاية الأسبوع» كما تقول مصادر بارزة. وتأكيداً على ذلك، تسرد المصادر الوقائع التي أحاطت بهذا الملف منذ الإعلان عن وصول الباخرة، وهي على الشكل الآتي:
- منذ اللحظة الأولى، اندفعت الجهات المعنية بالملف إلى رفع السقف في الإعلام. أما في الكواليس فقد حاولَ الجميع رفع المسؤولية عن كاهله. طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء لتعديل المرسوم وإيداعه لدى الأمم المتحدة. رفضَ ميقاتي الأمر لأنه لا يريد مواجهة الأميركيين، وفضّل رمي الملف على مجلس النواب، وخصوصاً مع وجود «أوركسترا» نيابية وراء الخط 29 (منها ما يدخل في إطار المزايدة، ومنها ما يحتمِل موقفاً خبيثاً لتوريط حزب الله وإحراجه). لم يمُرّ الأمر في الهيئة العامة، وتعرّت الدولة، في موازاة تأكيد الجميع أن الحفّارة بعيدة عن الخط 29 بنحو 200 متر، وكلام لوزير الخارجية عبد الله بوحبيب عن أن لا معطيات تؤكد دخول السفينة إلى المنطقة المتنازع عليها.
- وصلت الجولة الأولى من الاتصالات إلى طريق مسدود. تقرّر القيام بجولة جديدة، وهذه المرة مع الوسيط الأميركي الذي تحدث معه كل من رئيس الحكومة ونائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب ومستشار الرئيس نبيه بري علي حمدان، فكانت الصدمة الثانية، إذ اشترط هوكشتين الحصول على جواب لبناني رسمي على المقترح الذي طرحه في زيارته الأخيرة لبيروت، مؤكداً أن «للولايات المتحدة مشاغل أخرى في حال كانَ اللبنانيون غير موحدين خلف موقف». وأعطى هوكشتين موعداً غير رسمي للعودة إلى بيروت «الأحد أو الاثنين».
- حاولَ لبنان الاستعانة بالأمم المتحدة. طلب ميقاتي من المنسقة الخاصة للمنظمة الدولية في لبنان يوانا فرونتسكا دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للتدخل منعاً للتصعيد. لكن الدبلوماسية البولندية أبلغت رئيس الحكومة أن الأمم المتحدة لا تريد أن تقوم بأيّ دور في هذا الملف!
- تعامل حزب الله بعقل بارد في البداية، وأكد انطلاقاً من وقوفه خلف قرارات الدولة استعداده الكامل للتصدي والدفاع عن السيادة وفقَ الخط الذي يقرره لبنان. فيما لم ينجرف بري في الموجة، محصّناً نفسه باتفاق الإطار الذي أنجزه سابقاً مع الأميركيين باعتباره القاعدة التي يجب أن يلتزم بها لبنان. وكانت لافتةً مقاربة رئيس الحزب الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الملف بهدوء، فلم ينجح أحد في أن «يحمّسه» هذه المرة، وأطلقَ تغريدة انتقدَ فيها كيف «أصبحت، بسحر ساحر، غالبية قوى التغيير والسيادة على يسار أطراف الممانعة» في انتقاد واضح لقوى «الثورة» ولرئيس «القوات» سمير جعجع. وعلمت «الأخبار» أن جنبلاط طلب من نوابه وقيادات الحزب عدم إطلاق مواقف «شعبوية» والتنسيق مع الوزير السابق غازي العريضي الذي يتولّى الملف داخل الحزب.
بناءً على ذلك، اعتبرت المصادر أن حزب الله يُعتبر أول الرابحين مما حصل. فشِل المزايدون في استدراجه إلى التصعيد وإحراجه. وهم لم يتمكنوا من مواجهته في حال قرر تحرير المساحة المائية من العدوان الإسرائيلي عليها، أو اتهامه بانتاج مزارع شبعا بحرية، فيما هم «يتقدمون» عليه في الموقف من الخط 29.
اتجاه نحو الطلب من الوسيط الأميركي العودة إلى اتفاق الإطار


السؤال الآن: ماذا ستفعل الدولة اللبنانية؟ هناك محاولات لعقد اجتماع لمجلس الوزراء السبت المقبل للوصول الى جواب، وخصوصاً أن نقاشاً كبيراً يدور في هذا الصدد، انطلاقاً من التالي: إذا كانَ لبنان يعتبر الخط 23 حدوده، فلماذا كل هذا الاستنفار؟ وإذا كانَ سيعتمد الخط 29 فهذا يعني أنه غطاء شرعي للمقاومة للرد على أي اعتداء إسرائيلي. في موازاة ذلك، بدأت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا جولة استباقية لزيارة هوكشتين لاستبيان حقيقة الموقف الذي سيتم اعتماده، فيما تؤكد مصادر مقربة من الأميركيين أن «موعد الزيارة لم يحسم نهائياً ومصيرها رهن بوحدة الموقف الرسمي اللبناني». ولا تخفي المصادر أن شيا نصّبت نفسها ناظرة على الموقف اللبناني، وتعمل على ترتيبه لكي يتلاءم ووجهة النظر الأميركية التي من المحتمل أن يحملها هوكشتين إلى بيروت، وهي حصر التفاوض ضمن الرقعة الواقعة بين الخطين 1 و23 حصراً. بينما يجري الحديث عن اتجاه نحو الطلب من الوسيط الأميركي العودة إلى اتفاق الإطار وإطلاق مسار المفاوضات غير المباشرة في الناقورة من جديد، مع تعديل في طبيعة الوفد العسكري التقني، ويطرح اسم العقيد عفيف غيث كبديل محتمل للعميد بسام ياسين، والأمر نفسه ينسحب على الأعضاء المدنيين، إذ قد يجري تغييرهم، بينما ترجّح المصادر أن يطلب لبنان من هوكشتين استئناف جولاته المكوكية بين لبنان وكيان العدو.