منذ خمسينيات القرن الماضي، بدأ «الجعافرة» (عشيرة آل جعفر)، ككثيرين غيرهم، بالتوافد إلى بعلبك من قرية «الدار الواسعة» على سفوح السلسلة الغربية، والتي تبعد نحو 21 كلم عن المدينة. على ريفيتها، كانت بعلبك أقرب الفضاءات المَدينية الى سكان القرى الكثيرة حولها، كونها تؤمّن مجالاً لفرصة عمل ما، و«طمعاً بالمدارس بالدرجة الأولى، لأن المشوار من الدار الواسعة إلى بعلبك على الدابّة كان شاقّاً ومكلفاً»، بحسب أحد وجهاء آل جعفر. لذلك، «استحلينا مشاعات للدولة سنة 1958». وكما تنمو الضواحي العشوائية حول كل مدن العالم الثالث، بدأت المناطق الخالية من العمران المحيطة بالمدينة التاريخية، مع الوقت، بالاكتظاظ خصوصاً عند مدخلها الشمالي لتصبح ما يُعرف اليوم بـ«الشراونة»: «ضاحية» تمتد من تل الأبيض شمالاً إلى مستشفى الططري جنوباً، وتحدّها غرباً منطقة الكيّال وبلدة إيعات، وتسكنها عائلات من الطائفتين السنية والشيعية (الشياح، وهبي، زعيتر، الكيال، صلح، نون...)، غير أنها التصقت بـ«الجعافرة» الذين يسكنون وحدهم أكبر أحيائها.بين الستينيات والثمانينيات، بحسب أحد المطّلعين على تاريخ المدينة، عاشت غالبية سكان الحي الجديد على هامش الحياة التجارية والاقتصادية للمدينة، فيما لم تعرف إلا نسبة قليلة جداً منهم طريقها إلى وظائف الدولة. لم يكن أمام هؤلاء إلا زراعة حشيشة الكيف «التي غطّت كل سهل بعلبك - إيعات، ووصل الأمر إلى زرعها في حدائق المنازل». بقي الأمر على حاله، في ظل انحلال سلطة الدولة، حتى منتصف التسعينيات عندما بدأت القوى الأمنية سياسة تلف مصدر العيش الوحيد لهؤلاء من دون بديل. تسبّب ذلك في تراجع المستوى المعيشي لأهالي الحي وتزايد البطالة، قبل أن يجد كثيرون من الشبان «ضالّتهم» في «اقتصاد بديل» يقوم أساساً على فرض الخوّات وتأليف عصابات لسرقة السيارات والخطف مقابل فدية وتجارة المخدّرات، تضخّم نشاطها ونفوذها مع الوقت، وأضرّت بسمعة المدينة وقضت على أي أمل في إنعاشها اقتصادياً وسياحياً، حتى وصل الأمر إلى تجنّب البعلبكيين ممن يقيمون خارج مدينتهم زيارتها إلا في المناسبات. خلّف ذلك «انقساماً حادّاً بين أهل المدينة الأصليين، وبين وافدين إليها لا يَعدّونها مدينتهم ولا يهمّهم تاريخها وثقافتها، لهم فيها عالمهم الخاص، وليست بعلبك لهم سوى ساحة لإظهار السطوة»، كما يقول أحد أبناء المدينة. وزادت الأمور سوءاً أعراف التنافس العشائري التي حملها بعض الوافدين معهم، ما يسبب في أحيان كثيرة اشتباكات مسلحة، كما بين آل جعفر وآل زعيتر الذين يقيمون في حي تل الابيض المحاذي، ما أدّى إلى هجرة كثيرين من أبناء الأحياء المجاورة، وحتى من أبناء الحي نفسه الذي يشهد اكتظاظاً خانقاً، إذ إن شبان العشائر والعائلات، رغم إمكاناتهم المادية الجيدة أحياناً، يفضّلون بناء بيوتهم فوق منازل أهاليهم، كون الإقامة بين أبناء العائلة أكثر أمناً، وخشية عمليات الدهم التي تطاول أحياناً حتى غير المطلوبين لمجرد أنهم من أبناء العشيرة. تقول «زهراء» التي غادرت عائلتها الحي أخيراً: «الواقع أن الأمور عادية جداً، لا بل آمنة، رغم تجوّل بعض الشبان بسلاح ظاهر والتشفيط بسيارات بلا لوحات. كل هذا اعتدناه، لكنّ الكارثة تقع عندما تندلع اشتباكات مسلحة بين العائلات ويتخللها إطلاق الرصاص والقذائف بغزارة. في السنوات الأربع الأخيرة لم يعد الأمر يطاق مع زيادة وتيرة الاشتباكات ما دفعنا إلى المغادرة».
حسم ملف العفو يحول دون تحوّل جيل جديد من المطلوبين بقضايا بسيطة إلى «طُفار» يرفدون العصابات بـ«دم جديد»


غير أن الأخطر هو أن الحي السيئ السمعة الذي استقطب خارجين عن القانون و«زعراناً» من كل المذاهب والعائلات (وبعضهم من أبناء عائلات بعلبكية «أصلية») غالباً ما يوصم باسم عائلة واحدة أو يُنسب إلى طائفة معينة. فيما تشير «زهراء» إلى «أننا أقمنا في حي آل جعفر أربعين عاماً لم يتعرض فيه أحد لنا. ولا نزال نزور بيتنا هناك. رغم السرقات التي تحدث إلا أن الحي هناك آمن ولا أحد يجرؤ على دخوله».
يؤكد وجهاء عشائر أن «الواقع الكارثي لكل منطقة البقاع الشمالي هو نتيجة سياسات الدولة التي تستهدف إبقاء المنطقة خارج مظلة القانون عبر غياب الإنماء الحقيقي». فقد عرفت المنطقة القانون عبر القبضة الحديدية لمخابرات الجيش، وتلف الحشيشة من دون تأمين البدائل. «هذه السياسات أفهمت الناس وخصوصاً العشائر أن الدولة حكمت على المنطقة بالتهميش والإفقار، وعليكم أن تتدبّروا أموركم»، وأدّت إلى نشوء العلاقة الملتبسة تاريخياً بين الدولة والعشائر.
أقام الجيش اللبناني أول ثكنة عسكرية له في الشراونة، في حي بيت جعفر، سنة 2009 بعد كمين أقامه شبان من العشيرة لدورية عسكرية على طريق رياق - بعلبك وذهب ضحيته 4 شهداء من الجيش ثأراً لمقتل شابين من آل جعفر قبل أسبوعين من الكمين. بحسب أحد «الجعافرة»، الجيش «يقيم في بيوت لآل جعفر جعل منها ثكنات. لا نعرف الدولة إلا كملالات، وأطفالنا لديهم عقدة من الجيش».
غياب السلطة إلا من ضربات خاطفة وقاسية في مناطق مهملة جعل من العشيرة الملجأ الآمن لأبنائها، وأدخلهم في شبكات غير شرعية لتأمين مصالحهم من «التهريب وتجارة المخدرات والسلاح ومافيا السرقات والغارات على الطرق الدولية بقصد السلب، وفرض الخوّات والربا والخطف لقاء فدية والكسب السريع» وفق مصادر أمنية. فيما لم تتعامل السلطة مع هذه الظواهر بالحزم المطلوب، وليس خافياً «أننا نلقّم عناصر أمنيين لقاء غضّ الطرف أو تسريب معلومات حول عمليات دهم قبل حدوثها»، وفق أحد أبناء العشيرة، ما رسّخ نفوذ بعض العصابات طوال العقود الماضية. وزاد الأمور سوءاً التبدل الذي طرأ على المنظومة العشائرية التي لم تعد تحتكم إلى الأعقل والأكبر سناً، بل صار التأثير لمن يملك المال ويحمل في سجله أكبر عدد من مذكّرات التوقيف. وبحسب أحد وجهاء العشائر: «وُلدت ثقافة لدى البعض مفادها: أن تصبح مطلوباً فأنت زلمي! وأذكى الإعلام ذلك حتى صار في البقاع اليوم مئات «شيخ جبل» و«روبن هود»، يستغلون عائلاتهم والفقراء لتغطيتهم عبر الإحسان إليهم. وصار كبار المطلوبين نجوم الـ Talk Show». إزاء هذا الواقع «الوضع ميؤوس منه. فلا الدولة فيها تعمل شي، ولا الأحزاب، ولا ابن جعفر بيمون على ابن جعفر».
عودة إلى مسؤولية الدولة هنا أيضاً في تحويل مئات الشبان إلى مطلوبين. يقول وجيه من آل جعفر: «عندما يتشاجر اثنان نسارع إلى مصالحتهما حتى لا يتحوّلا إلى مطلوبين. مجرد أن تتحول إلى مطلوب ستتحول إلى طافر وتبدأ بمراكمة المذكّرات». يبدأ حل المسألة، من وجهة نظره، بحسم ملف العفو العام وحل مشكلة آلاف مذكرات وثيقة الاتصال. في حي الشراونة، مثلاً، من يصمون الحي بسمعته السيئة لا يتخطى عددهم 30 شخصاً وفق «الجعافرة»، وأقل من 100 بحسب مصادر أمنية. هؤلاء معروفون بأسمائهم وألقابهم وبعضهم قضى في معارك مع الجيش. حسم ملف العفو يسهم في إعادة الأمور إلى نصابها، والحؤول دون أن يتحول جيل جديد من المطلوبين بقضايا تتعلق بإطلاق نار في حفل زفاف مثلاً، إلى طفار يرفدون العصابات بـ«دم جديد»، لأن لا فارق لدى المطلوب إذا زاد مذكرة توقيف جديدة إلى تلك الصادرة في حقه. فيما تؤكد مصادر أمنية أن «المطلوبين الصغار لا أحد يقف عندهم، وقضاياهم تعالج عبر شطب الاسم. أما مسألة العفو فيأخذها كبار المطلوبين ذريعة ويستغلون الصغار ويحتمون بالبيئة الشعبية». فيما الأحزاب، في رأي الوجيه من آل جعفر، «ما بتقدر تمون. ليس عملها فرض الأمن ولا المطلوبون يتبعون لها حزبياً. المطلوب هو الدولة، ولكن ليس عسكرياً فقط، بل إنمائياً واحتضاناً أيضاً». يقول أحد أفراد آل جعفر: «منطعمي ولادنا خبز نحنا. وعندما نثأر فلتحصين كرامتنا. لو كان ثمة دولة حقيقية لاحتكمنا إليها». ويسأل: «هل نحن فقط من يملك سلاحاً؟ الأحداث التي تحصل هنا تحدث في طول البلاد وعرضها ولأهون الأسباب. ضعف الدولة حوّل البلد كله إلى شراونة كبيرة على امتداد 10452 كلم2».



أصل الاسم
ثمّة ثلاث روايات يتداولها البعلبكيّون حول أصل تسمية «شراونة». الأولى تنسبه إلى اسم الملك الفارسي كسرى الأول أنو شيروان الذي عَبَر منطقة بعلبك في إحدى غزواته واستقرّ في سهولها فترةً من الزمن. والثانية تشير إلى أن الشراونة بالسريانية هي اسم لشهرَي تشرين الأول وتشرين الثاني، حين يكون المناخ في هذه المنطقة أكثر برودة. أما الثالثة فتعود إلى أصل الكلمة بالعربية ومفردها «شرّاني»، أي كثير الشر، نسبة إلى أشرار سكنوها قديماً وسُمّيت المنطقة باسمهم.