ظلمنا، مرتين، الحرب العربية الخامسة التي كان لبنان ساحة لها صيف 1982، وشارك فيها لبنانيون وفلسطينيون وسوريون وعرب وأحرار من أرجاء العالم.ظلمناها مرّة حين سميناها «الاجتياح»، فيما كانت حرباً استمرت أكثر من ثلاثة أشهر بين السادس من حزيران والثامن والعشرين من أيلول 1982، عندما اضطرت قوات الاحتلال إلى الانسحاب من العاصمة، فيما كان جنودها يصرخون عبر مكبرات الصوت «يا أهل بيروت... لا تطلقوا النار علينا إننا منسحبون».
وظلمناها مرة أخرى حين تغاضت أطراف رسمية معنية بهذه الحرب، كالدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، عن ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها جيش الاحتلال أمام المحاكم الدولية. ولولا محاولة يتيمة لم يكتب لها الاستمرار قامت بها لجنة من شخصيات فلسطينية ولبنانية لملاحقة مرتكبي جريمة مجزرة صبرا وشاتيلا، يمكن القول إن واحدة من أبشع الحروب التي ارتكبت فيها جرائم ومجازر وفظائع مرّت من دون حساب.
من هنا تأتي مبادرة «القوس»، اليوم، بفتح ملف هذه الحرب بعد نصف قرن، لتؤكّد أن محطات حرب 1982 لا تموت في ذاكرة الأحرار، وأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بمرور الزمن، ما يتطلب تحركاً لبنانياً وفلسطينياً وعربياً أمام القضاء الجنائي الدولي لمحاكمة مجرمي الحرب في الكيان الصهيوني، حتى من فارق منهم الحياة كمجرم الحرب أرييل شارون، وكل من تثبت الوقائع مشاركته في التحضير لهذه الحرب وتنفيذها.
وإذا كانت مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبت يومي 15 و16 أيلول/سبتمبر 1982 العنوان الأبرز للجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني، بعد انسحاب القوات الفلسطينية والسورية من بيروت بموجب اتفاق فيليب حبيب (المبعوث الأميركي المقيم في لبنان خلال الحرب) التي أقرّت حماية دولية للمخيمات قبل أن تنسحب القوات المتعددة الجنسية من مواقعها عشية المجزرة لسبب لا يزال مجهولاً، فإن ما ارتكبه المحتل من مجازر أخرى لا يزال ماثلاً في الأذهان. فكل الجرائم ضد الإنسانية التي ينص عليها القانون الدولي وتفصّلها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ارتكبها جنود الاحتلال الصهيوني في الحرب التي امتدت على جزء كبير من الأرض اللبنانية، من الجنوب إلى البقاع الغربي والشوف وبعبدا، وصولاً إلى العاصمة بيروت التي شهدت حصاراً شاملاً امتّد ثلاثة أشهر، ويمكن أن يشكّل وحده قرينة على ارتكاب العدو لجرائم ضد الإنسانية.
ففي ذلك الحصار لم يكتف العدو بمنع دخول مواد عسكرية أو مقاتلين إلى العاصمة اللبنانية، بل شمل الحصار المواد الغذائية وحليب الأطفال، ناهيك عن قطع المياه والكهرباء عن سكان عاصمة يتجاوز عدد من بقي فيها مئات الالاف من المواطنين. وكل من عاش تلك الحرب علم كيف كانت تجري اتصالات، كلما طالت فترة انقطاع الكهرباء، بين الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي كان بدوره يتصل برئيس حكومة العدو مناحيم بيغن لإعادة التيار الكهربائي أو ضخ المياه إلى الأطفال والشيوخ والمرضى الصامدين في بيوتهم في العاصمة. واشتد الحصار مع حلول شهر رمضان المبارك، فحُرم الصائمون من كثير من المواد الغذائية، بل وأضاف العدو إلى ذلك جرائم متعمّدة حيث كان يشدّد من قصفه الجوي والبحري للعاصمة خلال موعد الإفطار، لا بل يفجر سيارات مفخخة في موعد توجه الصائمين إلى بيوتهم.
ولعل من أبشع الجرائم التي ارتكبها العدو بحق المدنيين العزل قصفه لأبنية بكاملها بـ«القنابل الفراغية»، كما حصل في «بناية عكر» في محلة الصنائع، التي استمرت أعمال إسعاف الجرحى وإخلاء الجثث منها أياماً، وبلغ عدد الضحايا بين شهيد وجريح أكثر من 200، إضافة إلى تدمير أبنية على من فيها في الطريق الجديدة وبرج أبو حيدر والنويري والروشة بذريعة وجود مكاتب عسكرية أو مقرات لبعض قادة المقاومة فيها… وهو ما ذكّرتنا به بجريمة قصف الجيش الأميركي لملجأ العامرية في العراق عام 1991، والتي بلغ عدد شهدائها المئات ولا يزال مرتكبوها من دون أي ملاحقة قانونية.
ظلمناها مرّة حين سميناها «الاجتياح»، فيما كانت حرباً استمرت أكثر من ثلاثة أشهر بين السادس من حزيران والثامن والعشرين من أيلول 1982


لم تكن السيارات العسكرية وحدها هدفاً لطيران الاحتلال، بل أيضاً السيارات المدنية وسيارات الاسعاف. وقد قدّم متطوعو الدفاع المدني في جمعيات مدنية بيروتية شهداء عديدين تم استهدافهم أثناء قيامهم بأعمال إنسانية في أكثر من منطقة في العاصمة والضواحي. وقد بدأ هذا الاستهداف منذ الساعات الأولى للحرب، مع قصف بعض هذه السيارات والمتطوعين في محيط المدينة الرياضية التي كانت أول أهداف الحرب الصهيونية ظهر يوم الجمعة في السادس من حزيران 1982.
وإذا كنت قد ركّزت في هذه العجالة على بعض جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في العاصمة، فهذا لا يعني التقليل من جرائم مماثلة ارتكبها العدو في كل المناطق التي دخلتها قواته، بما فيها المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان التي شهدت أكثر من مجزرة.
إن أي استعادة لمجريات تلك الحرب من قبل مراكز توثيق وأجهزة رسمية توّفر للحكومة اللبنانية، كما لمنظمة التحرير الفلسطينية، مادة كافية لملاحقة قضائية للكيان الصهيوني، لا سيّما أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بمرور الزمن، خصوصاً أن هذا الكيان لا يزال يرتكب حتى الساعة مجازر وجرائم بحق شعبنا العربي الفلسطيني، وضد لبنان وسورية وصولاً إلى أقطار بعيدة عن خطوط المواجهة.
فهل يقدم المسؤولون اللبنانيون والفلسطينيون على ذلك؟ وهل تقدم المنظمات والنقابات المحلية والإقليمية والدولية المعنية بالعدالة والإنصاف وحقوق الإنسان على مبادرات، وتضغط لملاحقة جرائم العدو، ليس إحقاقاً للحق فحسب، بل أيضاً لوضع حدّ لجرائم هذا العدو المستمرة حتى الآن.

* تجمع اللجان والروابط الشعبية