لا شك في أن السينما، قبل أي شيء آخر، أداة عظيمة لإيصال الأفكار. منذ ظهورها، صُمِّمت لإغواء الجمهور بالوتيرة والقوة والفعالية التي لا تتوافر لأي وسيلة اتصال جماهيرية أخرى. ومع المهارات السينمائية والتقنيات الصحيحة، يمكن أن تصبح ملهماً للشعوب. لذلك، ليس مستغرباً أن تستخدم الحكومات في كل أنحاء العالم هذا الوسيط الفني على نطاق واسع. البروباغندا (سينما دعائية) تعني نشر الرسائل التي يكون محتواها أيديولوجياً بطبيعته، بهدف مشاركة الجمهور في الالتزام أو الاقناع أو التعاطف أو استدراج سلوكيات أو مواقف معينة. ولطالما استخدمت الأنظمة السياسية السينما لأغراض ترويجية. عند تأسيس «دولة» إسرائيل، مثلاً، تم تبنّي السينما الدعائية لرفع الروح المعنوية للشعب، وللتأكيد على حلم الدولة المستقلة لاستعادة الأرض، وبناء المدن، وخلق حياة ثقافية، وتصوير فلسطين على أنها خالية من الناس وتنتظر الخلاص. كما لجأت «إسرائيل»، دائماً، إلى السينما لتبييض صورتها، تماماً كما فعل الصهاينة قبل قيام «الدولة» عبر أفلام الهولوكوست في هوليوود، من خلال إظهار شخصية اليهودي المقهور والضحية. وبعد قيام الكيان الصهيوني، بدأ الإسرائيليون بكتم التاريخ وكتابته بلغتهم وأدبياتهم، وبالطريقة التي تناسب حركتهم.
أفلام الحرب
الخدمة العسكرية والحروب نقطتان محوريتان في حياة الإسرائيليين، ولهذا شاعت «أفلام الحرب» بشكل كبير في السينما الإسرائيلية. نجاح هذه الأفلام في طمس معالم الجرائم التي ارتكبها الصهاينة دفع بالقائمين على السينما إلى المضي قدماً في هذا المجال. تحاول هذه الأفلام ترسيخ أهمية الحرب في عقل المشاهد الإسرائيلي وموقعها في تحديد مصير مئات الآلاف من اليهود واستمرار بقاء الدولة. أفلام مثل «لبنان» (2009) و«فالس مع بشير» (2009) و«زيتون» (2012) وغيرها الكثير حاولت إظهار «إنسانية» الجندي الإسرائيلي ضد «وحشية» أعدائه الذين «يجبرونه» على قتلهم، والتركيز على صدمة الجنود الإسرائيليين من الحرب، فيما تتجنّب المواجهة الأخلاقية عن الحرب والمجازر، خصوصاً مجزرة صبرا وشاتيلا وما يفعله الجيش الإسرائيلي في لبنان من الأساس. بهذه الطريقة، تتحايل الأفلام على قضايا المسؤولية الفردية والجماعية لحرب لبنان والاعمال الاجرامية الإسرائيلية المستمرة في حق الفلسطينيين، هنا لا بد من الإشارة إلى تزامن إطلاق فيلم «فالس مع بشير» في الصالات خلال فترة العملية العسكرية على قطاع غزة في 2008 -2009.
تحاول هذه الأفلام الدخول في وجهات نظر الجنود كـ«ضحايا» لأهوال الحرب وطمس الخلفية الأخلاقية والسياسية للصراع. فتصبح الحرب هي محنة الجنود، ويتحولون إلى ضحايا لها بدل المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين الذين تعرضت مدنهم ومخيماتهم للقصف والدمار. كما يتم تحويل لبنان وفلسطين في هذه الأفلام إلى ساحة لعب حيث يمكن للجنود الإسرائيليين أن ينغمسوا في افتتانهم اللاإرادي بآلتهم الحربية. وتميل هذه الأفلام إلى الانشغال بالمعضلات الأخلاقية للجنود، وتعتبر المجازر والفظائع حالات شاذة لا جزءاً من ثقافة منهجية، ويٌعتبر الجنود مثاليين وأبرياء. وحتى الأفلام التي تحمل رسالة «السلام» أو المناهضة للحرب فإنها تعمل بطريقة عكسية، وتحاول إخفاء العنف الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي. فيما تقدّم الأفلام التي تحمل خطاباً «إنسانياً» نظام الفصل العنصري وعدم المساواة في فلسطين كأمر مفروغ منه.
للذهاب ابعد من كل هذا، حاولت «إسرائيل» مرات عدة الغاء الحرب اللبنانية - الإسرائيلية من التاريخ. فيلم «تساهال» (1994) لكلود لانزمان، عن «جيش الدفاع الإسرائيلي»، ومدته خمس ساعات، فشل تماماً في معالجة الحرب في لبنان، ومر بصمت أو بسطحية على الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال الجنوب اللبناني الذي كان لا يزال قائماً لدى عرض الفيلم للمرة الأولى. هكذا، محا الفيلم لبنان من تاريخ الجيش الإسرائيلي ومحا قصف البلدات وتدمير المخيمات وحصار بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا.

نتفليكس وأخواتها
في السنوات الأخيرة، مع ازدهار منصات التدفق الرقمي مثل «نتفليكس» و«أبل تي في» وغيرهما، لوحظت طفرة في البرامج والمسلسلات على الشاشة الصغيرة التي تبجل الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات وتشيطن الفلسطينيين. تصور هذه المسلسلات والأفلام «بطولات» جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) وتلاقي ازدهاراً وانتشاراً عالمياً، وتعدّ أداة جديدة للترويج لإسرائيل كـ«حليفة للخير». ولأن المنصات الرقمية من المصادر الرئيسية للمعرفة لكثير من الناس، فإن هذه المسلسلات ليست اقل خطورة من السينما والتلفزيون، مثل «فوضى» (متوافر على نتفليكس) الذي يبجّل عمل «المستعربين» (وحدات امنية سرية وخاصة يُزرع أعضاؤها الذين يحملون ملامح عربية وسط المتظاهرين الفلسطينيين)، و«الجاسوس» (متوافر على نتفليكس أيضاً) الذي يقدّم مغالطات تاريخية حول العميل الإسرائيلي إيلي كوهين، و«الملاك» حول أشرف مروان (صهر الرئيس جمال عبد الناصر) الذي تعتبره إسرائيل عميلاً مزدوجاً للاستخبارات المصرية والإسرائيلية، و"The Red Sea Diving Resort" حول تهريب يهود الفلاشا من أثيوبيا إلى فلسطين المحتلة عبر السودان ويركز على الوجه «الإنساني» لعملاء الموساد وإصرارهم الكبير على إنقاذ أبناء ديانتهم من الاضطهاد رغم الاختلاف العرقي والثقافي بينهم، ومسلسل «موساد 101» ووثائقي «داخل الموساد» اللذين يركزان على الجانب «الإنساني» لعملاء الجهاز وتجاربهم الشخصية.
تصوّر الأفلام الاسرائيلية الجنود كـ«ضحايا» لأهوال الحرب وتطمس الخلفية الأخلاقية والسياسية للصراع


ما تحاول «إسرائيل» فعله من خلال الأفلام والمسلسلات الجديدة هو تقديم صورة بطولية لهذه الأجهزة وعملائها، وأن تخلق في ذهن المشاهد صورة مضلَّلة عن الواقع. ويراهن الإسرائيليون على أن إعادة إنتاج قصصهم وإخبارها من وجهة نظرهم سيخلق مع الوقت رأياً عاماً جديداً مع جمهور كبير يستسقي المعلومات فقط من هذه المنصات. لذلك رحبت وكالة الاستخبارات الإسرائيلية بهذا التطور الجديد، بل وباتت تجند عملاء خصيصاً لشغل وظائف في الدعاية والاعلان على المنصات الشهيرة. لذلك نحن مدعوون في هذه الحرب الجديدة إلى تحدي الروايات التي تروّجها «إسرائيل» بالطريقة نفسها التي ينتهجها العدو. الكفاح الثقافي مهم، ومحاربة «إسرائيل» بالمسلسلات والأفلام والسينما أكثر من ضروري. إذ لا يمكن القبول بالرواية الإسرائيلية، بل إن قصصنا يجب أن تُروى... وبقوة.