بعد 40 سنة على الحرب العربية - الإسرائيلية الخامسة، صمت مطبق وغياب لأي مسعى جدي أو محاولة، محلية أو إقليمية أو دولية، لمقاضاة المسؤولين عن الجرائم ضد الانسانية والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بحق البشر والطبيعة في لبنان صيف 1982. إن قلب صفحة ما يعرف بـ«الاجتياح» من دون تحقيق كامل وعلمي ونزيه، يعدّ إهانة للضحايا و«وصفة» لإفلات المجرمين من العقاب وتشجيعهم على إراقة مزيد من الدماء. يعرض هذا المقال معلومات عن التحقيق الجنائي في جرائم الحرب وجمع الأدلة وتحليلها، وأدوار المشاركين المختلفين في إجراءات التحقيق. على أساس تحقيق وتحليل موضوعيين مستندَين على الأدلة، ومن خلال إجراءات جنائية عادلة ومستقلة، يُفترض ان يعمل فريق التحقيق على جمع وحفظ وتخزين الأدلة المتعلقة بالممارسات الإسرائيلية التي ترقى إلى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية

بعد أربعين عاماً على الحرب الخامسة، فإن وفرة شهادات شهود العيان والضحايا ومشاهد الدمار وحقول الألغام والصور ومقاطع الفيديو، تقدّم كمية غير مسبوقة من الأدلة على الجرائم الفظيعة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي بحق السكان في لبنان. رغم ذلك، فإن هذا الكمّ الهائل من الأدلة ليس بالضرورة ضمانًا لمحاكمة عادلة. إذ أن التجارب السابقة تؤكّد الحرص الدولي، الأميركي والأوروبي خصوصاً، على حماية «إسرائيل» من خلال السكوت عن الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها، والاكتفاء بخطوات شكلية لا تؤدي الى محاسبة قضائية.

من كتاب «اجتياح لبنان» (يوميات، صور، وثائق)

كان مفترضاً، منذ عام 1982، ان يشكّل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مثلاً، لجنة تحقيق، وان تحضر الى بيروت بعثة خبراء من مختلف المجالات، لمساعدة النظام القضائي اللبناني في شكل مباشر في جمع وحفظ الأدلة على الفظائع المرتكبة على الأراضي اللبنانية. الّا انه، حتى الآن، لم يُطلق أي تحقيق دولي جدّي في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها العدو الإسرائيلي آنذاك. وبما أن المسؤولية الجنائية الفردية مبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي الإنساني، هناك حاجة إلى تحقيقات جنائية لإثبات الحقائق وجمع الأدلة ذات الصلة من أجل محاكمة السلطات الإسرائيلية.
التحقيق في جرائم الحرب كالتحقيق في أي نشاط إجرامي آخر، يتم من خلال مقابلة الشهود ومراجعة الصور ومقاطع الفيديو وجمع الأدلة الجنائية، بما في ذلك التحليل البالستي وأنواع الأسلحة المستعملة، وتشريح الجثث أو اختبار الحمض النووي. كما يتزايد الطلب على علماء الأنثروبولوجيا الجنائيين للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي في هذه الجرائم. ويمكن للمباحث العلمية أن تلعب دورًا أساسيًا في المحاكم الجنائية الدولية عبر تقديم أدلة جنائية تساهم بشكل فعّال في مقاضاة مرتكبي الإبادة الجماعية والعديد من الجرائم الأخرى.
ويساعد استعمال التقنيات الجنائية الحديثة لتحديد هوية الأشخاص، وبروتوكولات التحقيق في مسرح الجريمة، في تقييم وتوصيف عبء الإثبات ضد العدو الاسرائيلي أمام المحاكم الوطنية والدولية على حد سواء. تحقيقات المباحث العلمية ضرورية لجمع الأدلة المادية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي قام بها الجيش الإسرائيلي من تدمير عشوائي للمدن والقرى، وتعذيب واعتقال المدنيين، واستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والمؤسسات الدينية والثقافية، الامر الذي يساهم في توجيه الاتهام إلى العدو الاسرائيلي ومحاكمته.

جمع الأدلة
يعمل فريق التحقيق على جمع الأدلة المتعلقة بجرائم الحرب عبر إجراء مقابلات وتوثيق شهادات الضحايا وأقوال الشهود على الغارات الجوية والبحرية والقصف المدفعي المتعمد للمدنيين، وإجراء استقصاءات ميدانية لجمع المعلومات والوثائق من المستشفيات والمؤسسات الحكومية والجمعيات الانسانية التي استقبلت الشهداء والجرحى خلال الاعتداءات الإسرائيلية، من أجل تحديد الضحايا ونوع الإصابات والجروح والحروق لتوثيق الأثر الكامل للحرب على المدنيين لا سيما الأطفال والنساء والعجز والمعوقون.
في سياق عملهم، يجمع المحققون معلومات من أفراد قوة اليونيفيل والجيش والقوى العسكرية بهدف جمع الافادات والشهادات، إضافة الى فحص صور الأقمار الاصطناعية التي تظهر طبيعة المواقع التي استهدفها العدو والأضرار الكبيرة التي لحقت بالمباني السكنية والمستشفيات والمؤسسات التربوية والدينية والبنى التحتية. أضف الى ذلك المقابلات مع الأسرى المحررين لا سيما في معسكر الاعتقال في بلدة أنصار مثلاً للإضاءة على عمليات التعذيب الممنهج بحق الأسرى والتي ترقى الى توصيف جرائم ضد الانسانية.
تحدّد نتائج التحقيقات البالستية أنواع المقذوفات والأسلحة المحظورة دولياً التي استخدمها العدو في حربه على لبنان


الى ذلك، يرتكز المحققون الى الأدلة الجنائية المادية التي كان يفترض رفعها من مواقع الاعتداء، والتي تؤكد أن جريمة حرب قد ارتكبت بالفعل. ويمكن أن تكشف نتائج التحقيقات البالستية عن أنواع المقذوفات والأسلحة المحظورة دولياً التي استخدمها جيش العدو. كما يمكن لدراسة التربة والرواسب الكيميائية في المياه الجوفية في أماكن القصف الإسرائيلي، وأنواع الحروق والاصابات على أجساد الضحايا، توفير «ملف تعريف بالستي»، كجزء من استكمال سلسلة الأدلة البالستية الأخرى، بهدف تقديم دليل على أنواع الأسلحة والقذائف التي استخدمها العدو، كالصواريخ الفوسفورية والانشطارية والعنقودية والحارقة، إضافة إلى حقول الألغام العشوائية، علماً ان زرع حقول الألغام من دون تعليمها وتسجيلها لإزالتها لاحقًا يعدّ جريمة حرب.
من جهة أخرى، يفترض ان يتعاون فريق التحقيق الدولي بشكل وثيق مع لبنان لتقييم الأدلة والمواد التي بحوزته، بناءً على موثوقيتها وقيمتها الإثباتية. ثم يتم تنظيم الأدلة التي يجمعها الفريق بشكل منهجي، وفهرستها وتسجيلها وحفظها وتخزينها في لبنان، وفقًا لمعايير القانون الجنائي الدولي ومع مراعاة القوانين الجنائية والإجراءات اللبنانية. وهذا يضمن أن الأدلة يمكن أن يكون لها أكبر قدر ممكن من قابلية الاستخدام والقبول في الإجراءات الجنائية العادلة والمستقلة التي تجريها المحاكم المحلية المختصة في لبنان.

جرائم البيئة
من الطبيعي عدم الاكتراث للآثار البيئية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية مقارنة بالجرائم ضد الإنسانية والقتل والتعذيب والاغتصاب، الا ان هذا الضرر البيئي سيظل لعقود بعد انتهاء الحرب. فالدبابات تستبيح الغطاء النباتي، والمتفجرات تشعل الحرائق، وتطلق الأسلحة غازات وجسيمات سامة في الهواء تؤدي إلى تلوث التربة والمياه بالمعادن الثقيلة والمواد السامة.