يعرّف قانون أصول المحاكمات المدنية الدعوى بأنها الحق الذي يعود لكل ذي مطلب بأن يتقدم به الى القضاء للحكم له بموضوعه، ولكن عندما يدّعي قاض على خصم انتمائه السياسي، نكون طبعا في الدّرك الأسفل.لكن ما يحصل أن قاضياً اختلف مع زميله، فادّعى عليه ليلجأ الأخير الى سلطة قضائية أعلى ادّعت بدورها على الأول، ثم قامت قاضية بانتهاك موجب التحفظ فأحيلت الى التفتيش القضائي وتم تسريب هذا الخبر والعدل منتهك بينهم.
كلما ارتقى القضاء والقضاة نكون أقرب الى دولة القانون، القانون الذي يحكم القاضي به باسم الشعب.
لا يكفي أن نعلم بأن الأحكام تصدر باسم الشعب، ولا يكفي أن ننفّذ قانون أصول المحاكمات الذي ينص على ان صدور الحكم يكون باسم الشعب اللبناني، ولا يكفي ان يذكر ذلك صراحة فيه، وإنما علينا ان نفقه معنى ذلك ونعيه.
في ظل هذا التهريج الإعلامي والاختلاط بين الأسود والأبيض، لا يمكن أن يكون لقاض أو قاضية المشاركة فيه.
إن صدور الحكم باسم الشعب، الذي هو مصدر السلطات، يعني أن الشعب بمجموعه ارتضى أن يعهد الى حَكَمٍ عدل وعادل يحكم في ما يعترض شؤونه وشجونه وحقوقه، وان هذا الشعب قد وضع ثقته في هذا الحَكَم مرتضياً الاحتكام اليه والخضوع الى حكمه ومنحه قدسية تسمو بالحكم. هذه القدسية تنتقل الى القاضي بصفته الحاكم بالعدل باسم الشعب، لا باسم حزب أو تنظيم او تيار او ديانة.


تصدر الأحكام قانوناً في مقر المحكمة وليس على صفحات التواصل الخاصة بالقاضي. وحين يتهم مدّع عام أي شخص، يكون هذا الشخص موضوع تحقيق وليس محكوماً، ولهذا أعطى القانون للمتهم صك البراءة قبل الاتهام، وأعطى للحكم عبارة «النطق»، فاستعملها حين تناول الأحكام، لأن ما ينطق به القاضي يكون نابعاً من القانون وليس من عصبية او انتماء او عداوة او صداقة أو قرابة.
فالحكم النهائي هو الذي يفصل في أصل النزاع، وهذا الحكم النهائي يخرج القضية من يد المحكمة.
أي تصبح مهمة القضاء منجزة بإصدار حكم نهائي ومبرم وباتّ، وليس ببيان او وجدانيات. ولكن، من جهة أخرى، لا يجوز اتهام القاضي الذي يدّعي على شخص انه ينكّل به لمجرد ان القاضي قريب من جهة سياسية أخرى، أصلاً لا يجوز ان يكون القاضي قريبا من أحد، ولكن التهريج منتشر، وبانتشاره يختلط الصالح بالطالح.
فالإثبات ليس ما يدعيه الخصوم سيما اذا كان هذا الخصم قاضياً، وإنما هو إقامة الدليل أمام القضاء على واقعة أو عمل قانوني يسند إلى أي منهما طلب أو دفع أو دفاع.
حق الادعاء العام أو الدعوى ليس سلاحاً نشهره ضد خصمنا او ضد من يرهقنا، حتى ان حق الادعاء الخاص مقيّد بعدم التعسّف باستعمال هذا الحق، تحت طائلة الحكم بتعويض وعطل وضرر على من يسيء هذا الاستعمال. هذا في النصوص، أما التطبيق فيحتاج إلى تهذيب.
بالعودة أيضاً الى القانون، فإن للنيابة العامة حق الادعاء في الأحوال التي عيّنها القانون والأحوال المتعلقة بالنظام العام، عند حدوث وقائع أو أفعال من شأنها المساس به، ولكن لم يقل القانون لنا أمام من يدّعي المقيمون تحت سقف هذا القوس اللبناني اذا ما أخلّ قضاةٌ بالنظام العام القضائي وعرّضوا انتظام العمل القضائي للاهتزاز، لا بل للتكسّر او للتحطيم.
في الوقت نفسه، لم يقل لنا القانون يوماً إن للقضاة حق استعمال الدعوى العامة «للتأديب»، حتى ضد زميل او زميلة له.
إن قانون أصول المحاكمات المدنية ينص على ردّ القاضي، لا بل يُلزم هذا القاضي أن يعرض تنحّيه من تلقاء نفسه إذا كانت بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجع معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل. وعبارة «ميل» تكفي بحد ذاتها للتعبير عن مدى وجوب تجرّد القاضي من كل هوى او بغض.
في ظل التهريج الإعلامي والاختلاط بين الأسود والأبيض، لا يمكن أن يكون لقاض أو قاضية المشاركة فيه


فكلام القضاة ليس القول المجازي، وليس القاضي شاعراً هاجياً لخصومه او لمن يدعّي عليهم ولا المُسِيءُ الظَّنَّ ولا المفتون برأيه، إنه العدل، ونطقه حكم وكتابته قرار نافذ.
لا يسعنا في أيام قضائية حالكة كأيامنا إلا أن نخبر كل من يرى نفسه معنياً بتقويم الاسى القضائي الذي نعاني منه بأن يعلم جيداً أن أسوأ ما يمكن أن ينالنا هو اتباع الهوى في الحكم على الناس. ونقتبس من قول للنائب المرحوم نسيب لحود أدلى به في مجلس النواب عام 1994، حين قال: «قيل ان أسوأ ما يمكن ان يصيب الحياة العامة في أي بلد هو استشراء الفساد، وأسوأ انواع معالجة الفساد ذاك الذي يعتمد على نشر الغسيل اليوم واللفلفة غداً. كأن الفضيحة ملك خاص نطرحها في السوق عند الحاجة ونسحبها من التداول بعد استنفاد الغرض. هذا النمط من المعالجة يفتقد الى الأساس الاخلاقي، ولا يمتّ الى مكافحة الفساد بصلة، بل يحضّر الارضية الملائمة لجولة جديدة من الفضح واللفلفة.»
يقول عبد الرحمن الكواكبي في مؤلفه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: «كلٌّ يذهبُ مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية».
ولكن دواء ما نعانيه نحن هو تطبيق الدستور وقانون استقلالية القضاء والكثير من التربية الذي نحتاج اليه لصقل نفوس أبنائنا على احترام القضاء، وقبلها فليعاد ترميم ما تصدّع من القضاء.