ليست الآلية الدستورية ومهلها القصيرة الوشيكة، سوى دليل مهم وأساسي على مغزى استعداد الأفرقاء للاستحقاق الداهم، سواء انتخب رئيس جديد للجمهورية أو شغر منصبه. بعد أعوام 1988 و2007 و2014، بات الشغور أمراً عادياً مألوفاً، عند البعض مأنوساً، غير ثقيل العبء ومكلف. تكرار السوابق، واحدة تلو أخرى، يجعله عُرفاً يطيب المرور به ويُستَسهل التعايش معه. ذلك ما يدفع إلى الظن أن توقيت ثلاثة استحقاقات دستورية في مدة قصيرة، ما بين 15 أيار و31 تشرين الأول، وتأثير كل منها على الآخر كحجارة الدومينو، يجعل خوضها تباعاً مترابطاً كما لو أنها رزمة واحدة. عبّر عن هذا التشابك ضراوة انتخابات أيار، ثم الآن معركة رئاسة مجلس النواب، فتأليف الحكومة، وصولاً إلى المعضلة الكأداء رئاسة الجمهورية.
ربما لهذا السبب، كما لسواه أيضاً، أحاط بانتخاب رئيس للمجلس مثل هذا الكم من السجال والتناحر والخلاف، لم يدرْ في فلكه لتعذّر مواجهة الرئيس نبيه برّي بمرشح شيعي ضده، بل راح يدور من حول منصب نائب رئيس المجلس. مع أن الدستور نص على هذا الكيان، ومنحه النظام الداخلي صلاحيات مرتبطة حصراً بتغيب رئيس المجلس عن وظيفته، إلا أن دوره لا يعدو أكثر من جالس إلى يمين الرئيس. لا يحل في مهمة سوى ما يكلفه إياها رئيسه كترؤس اللجان النيابية المشتركة. لذا بَانَ مفاجئاً هذا التنافس والصراع من حول منصب نائب رئيس المجلس والتسابق عليه، كما لو أنه كيان دستوري مستقل في ذاته، ليس جزءاً لا يتجزأ من الرئيس أولاً، ومن هيئة مكتب المجلس ثانياً.
مثلما رُفِض في اجتماعات جنيف ولوزان عامي 1983 و1984، وفي عشرات الأوراق والمشاريع الدستورية ما بين عامي 1985 و1987، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989، استحداث منصب نائب لرئيس الجمهورية تفادياً لمدّ اليد إلى العِبْ، كذلك لم يَسمح مرة رئيس للحكومة بإعطاء نائبه ما لا يملكه، ولم يسمح له في غيابه حتى بممارسة صلاحياته، ولا مع رئيس المجلس عندما يتغيّب. حقوق طوائف المثالثة في رؤوسها فقط.
تنفيس التصويب على برّي في انتخابات نائب الرئيس
ما دام الأمر كذلك، لم يسع أحد تفسير دوافع شن حرب ضارية على استحقاق غد على أنه منازلة ضد برّي. لأن لا بديل شيعياً منه، فضّل مناوئوه خوض معركة إضعافه كي يُنتخب، في سابقة لم يعرفها في العقود الثلاثة المنصرمة، بالغالبية النسبية، يروم منها هؤلاء تعطيل دوره المرجعي في النظام منذ عام 2005، بعد خروج سوريا من لبنان، وإفقاده دور المُحتكم إليه. على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية، يعرف موالو رئيس المجلس ومعارضوه على السواء، بما ما تخبّر السوابق، أن الرجل المقيم في هذا المنصب هو صاحب الدور الأساسي في إدارة انتخابات رئاسة الجمهورية. أكثر من توجيه الدعوة وتحديد المواعيد، هو المعني بتسهيل إمرار الاستحقاق، وتوفير أفضل غالبية من حوله.
لم تُنسَ عبارة انتخابات 1964 كان أطلقها الرئيس كامل الأسعد وهي «الاستئناس» من حول إعادة انتخاب الرئيس فؤاد شهاب أو انتخاب خلف له. ولا رفض الرئيس صبري حمادة عام 1970 إعلان انتخاب الرئيس سليمان فرنجيه بفارق صوت واحد - وهو صوَّت ضده - بحجة أن فوزه لم يستوفِ الأكثرية المطلقة. ولا المعركة التي خاضها الأسعد عام 1982 بغية تأمين انتخاب الرئيس بشير الجميّل وجهاً لوجه ضد سوريا. ولا كتم الرئيس حسين الحسيني منذ حزيران 1989 قرار انتخاب الرئيس رينه معوض قبل أربعة أشهر من اتفاق الطائف بتفاهم مع الرئيس حافظ الأسد. آخر السوابق هذه، غير المختلفة في مغازيها عما سبق في العقود الماضية، اقتراع برّي ضد الرئيس ميشال عون عام 2016، ثم تبريره آنذاك موقفه السلبي بأنه لن ينتخب رئيسين في آن. قبل عون، رفض برّي تمديد ولاية الرئيس الياس هراوي عام 1995 ثم سلّم بالقدر السوري، ثم تحفظ عن التمديد لخلفه الرئيس اميل لحود عام 2004 وسلّم أيضاً على مضض بإصرار الرئيس بشار الأسد.