يُنقل في الأحاديث عن النبي محمد أنه نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان أو جائع! والحالتان، الغضب والجوع، تسيطران على قضاة لبنان هذه الأيام. لكن مبدأ «التحفّظ القضائي» يخنق أصوات القضاة ويمنعهم من التعبير عن سوء أحوالهم، بعدما باتت رواتبهم ومخصصاتهم بالكاد تكفي لوقود سياراتهم، شأنهم شأن اللبنانيين جميعاً. علماً أن للقاضي «خصوصية» عن غيره من العاملين في بقية الأسلاك. إذ تُحسب عليه كل خطوة يخطوها، فيما العمل الوحيد الذي يمكنه مزاولته هو التعليم الذي لم يعد هو الآخر يدرُّ دخلاً يُذكر، حتى لم يعد أمام القاضي في لبنان اليوم إذا لم يكن مرتشياً سوى واحد من حلين: إما أن يكون لديه معيلٌ من عائلته ليتمكن من الاستمرار أو التقدم بطلب للاستيداع للسفر والعمل في الخارج.يوم الجمعة الماضي، تداعى نحو 40 قاضياً للاجتماع في قاعة «شهداء القضاء» في محكمة التمييز في بيروت، وفوّض نحو 100 قاضٍ آخرين المجتمعين التحدث باسمهم، بعد تعذّر مشاركتهم بسبب كلفة الانتقال!
هدف الاجتماع كان التداول بما وصلت إليه الأمور «نتيجة الانحلال التام الذي وصل إليه الوطن وجريمة الإبادة الجماعية الذي يتعرض لها الشعب اللبناني، بمن فيهم القضاة والمساعدون القضائيون، في ظل عجز الغالبية الساحقة من المواطنين عن تأمين قوتهم اليومي». وبعد اللقاء، قرّر المجتمعون «إعلان الاعتكاف القضائي الشامل من دون استثناءات، بدءاً من صباح اليوم ولمدة أسبوع كامل رفضاً لاضمحلال الكرامة القضائية على الصعد كافة». وناشدوا مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة ومجلس ديوان المحاسبة دعوة القضاة عامة للاجتماع في جمعية عمومية لمعالجة الوضع القضائي المزري. كما دعوا «الشعب اللبناني إلى مطالبة الزعماء السياسيين كافة الذين توالوا على الحكم عقوداً من الزمن إلى دعم الخزينة العامة المفلسة والمنهوبة من أموالهم الخاصة تحملاً لمسؤوليتهم المعنوية بحدها الأدنى»، معتبرين أنّه لا يمكن الاستفادة من ترف السلطة وغسل الأيادي عند جوع المواطن».
غير أن الدعوة إلى الاعتكاف لم تنل إجماع القضاة رغم أن الإجماع موجود على المعاناة التي يعيشها المنتسبون إلى هذا السلك. فقد رأى قضاة آخرون أن «الاعتكاف سيكون بلا زخم» رغم أن القضاة الـ 40 والـ 100 الذين فوّضوهم يمثلون ثلث الجسم القضائي. ويرى هؤلاء الذين لا يقلّون يأساً عن أصحاب الدعوة أن أحداً من كبار القضاة أو كبار المسؤولين في الدولة لا يملك أي قدرة على التغيير، وأن المطلوب من القضاة هو الفعل لا الاعتكاف في وجه «جريمة الإبادة الجماعية الذي يتعرض لها الشعب اللبناني» كما جاء في بيان القضاة المجتمعين، انطلاقاً من مقولة ابن خلدون: «فساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة». وكتب القاضي شادي قردوحي على صفحته على «فايسبوك»: «أعلن رفضي التام، لإعلان بعض الزملاء القضاة الاعتكاف العام. وكما قلت عند إعلان الاعتكاف السابق: هل نحن القضاة بحاجة لاعتكاف؟ وهل من اعتكاف أشد وطأة من اعتكافنا عن القيام بواجبنا تجاه الوطن وشعبنا! نحن في حالة اعتكاف منذ بداية الأزمة. أموال المودعين نهبت والدولة رهينة مافيا المصارف وكلنا معشر القضاة يعلم ويعرف. نريد الاعتكاف عن زيارة الزعماء وحاشيتهم، وعن ظلم ضعيف يقابله إفلات نافذ من العقاب بسبب نافذ أو نفوذ مستتر، ونريد الاعتكاف عن استخدام بعضنا كسيوف في معركة أهل السلطة». وختم: «بالنسبة لي ولكل قاض حر، لا يوجد خيار ولا حل إلا بمحاسبة عادلة تبدأ من القضاة أنفسهم... لا حل إلا بتطهير القضاء».