بمجرد ذكر هذا العنوان أمام أي عربي بالغ، تتبادر إلى ذهنه الأغنية الرقيقة العذبة للسيدة فيروز، وربما يبدأ بترديد كلماتها البسيطة المنسابة، وتقليد إيقاع موسيقاها. فهي من الأغاني التي تتسم بشعبية عالية عمت بلاد العرب. لكن الأمر يختلف في حالة الأسير الفلسطيني. فهدير البوسطة لديه له دلالة مختلفتة، تمتزج فيها كلمات وموسيقى فيروز مع سَير المعاناة وايقاعات العذابات في السجون، حيث تصبح الألحان نشازاً وثقيلة على الآذان من أصوات السجّان القذرة، ونباح الكلاب المتوحشة على الأسرى، وأصوات احتكاك السلاسل التي تكبّل يدي الأسير وقدميه، داخل هيكل من حديد، تتعالى فيه أصوات الأنين بسبب الأوجاع خلال ساعات طويلة تستغرقها الرحلة داخل هذه الكتلة الحديدية لا يذوق فيها الأسير طعمًا للراحة. فما بالكم اذا كان مريضًا. عندها يمكن تخيّل مقدار العذاب في هذه البوسطة، لتغدو هذه الرحلة جرثومة أخرى تنال من مرضه ونفسيته، لكن الإرادة هي التي تحول بين هذا العذاب وبين الاستسلام له.

تعالوا نقترب أكثر إلى حال الأسير داخل هذه البوسطة حيث يكون مقيداً لا يمكنه استذكار الموسيقى إلا للاحتيال على الوقت. مسيرة البوسطة تمتد لساعات وأيام، يغني الأسير في سره، ويتذكر فيروز واغنيتها ويقارنها بواقعه المأساوي، ويفتح الأسير بوابة ذكرياته لينتقي منها ما ينسيه واقعه، وربما يحاول طرق ابواب مستقبله كله ليكون طاقة الفرج بعد هذا الكَرب، فيفكر في هذه المرحلة بماضيه وحاضره ومستقبله القريب والبعيد، وبمصيره ومصير قضيته، وحاله وأسرته، شعبه وهمومه الفردية، لعله يخرج في نهاية النفق المظلم إلى شعاع أمل ينير به واقعه.
بالعودة إلى الحديث عن البوسطة، تعالوا اصطحبكم للتعرف عليها، البوسطة: هي وسيلة نقل الأسرى إلى السجون والمحاكم ومراكز التحقيق، مسؤولة عنها وحدة تسمى «نحشون». شكلها الخارجي يشبه بقية الحافلات التي تقل البشر صباحًا إلى مكان عملهم، او السياح إلى الأماكن السياحية، ولكنها من الداخل هيكل حديدي ضيق المساحة، تضم مقاعد حديد تتسع لـ ٢٥ أسيراً وزنازين انفرادية تتسع لشخصين لا تتجاوز مساحتها مترًا مربعًا واحد، والقفص الحديدي والزنازين تحتوي على شبابيك محجوبة بالشبك (المعدن المطرّى) لحجب الرؤية، ويقوم أفراد «نحشون» بإقفالها بالأقفال لمنع أي محاولة هروب، َوخلف هذه الأبواب عتاصر من «نحشون» مدججون بالأسلحة لـ«حماية» أنفسهم من أناس عُزَّل لا حول لهم ولا قوة.
قبل النقل بيومٍ، يبلغ الأسير بالأمر، فيجهز حقيبته بأغراض سيحتاجها في الرحلة، مثل الوسادة وبعض الملابس، لأن النقل قد يستغرق اسبوعًا كاملًا، بحسب المسافة إلى السجن. في وقت مبكر من صبيحة اليوم التالي، يحضر السجانون لنقل الأسير الى غرفة الانتظار داخل السجن نفسه، حيث يجري تفتيشه وتجريده من ملابسه ومن الأجهزة الإلكترونية، قبل أن يوضع في غرفة صغيرة المساحة مع عدد كبير من الأسرى، لا تحتوي على مقاعد وتضمّ حماماً مكشوفاً. هناك، يمكث الأسرى ما لا يقل عن ثلاث ساعات، قبل أن يحضر عناصر وحدة «نحشون» الذين يتولون بدورهم إعادة تفتيش الأسرى وتقييدهم بالسلاسل ثم إدخالهم الى زنازين البوسطة التي تكون في الصيف كتلةً من اللهب، وفي الشتاء تنهش ببرودتها جلود الأسرى. يُترك الأسرى داخل كتلة الحديد هذه لمدة لا تقل عن ساعتين. البوسطة ابداعٌ بالوحشية وابتكار خلاق لوسائل التعذيب بطريقة هادئة بعيدةً عن الضرب واللكمات، إذ تنال من الجسد ومن النفسية، من دون ضرب او ايذاءٍ مباشر. بعد انتظار، تتحرك البوسطة إلى وجهتها الأولى، وهي في الغالب سجن آخر، يستغرق الوصول إليها تقريبًا ساعة لنقل أسرى آخرين يخضعون للاجراءات نفسها. وبعد الانتهاء من «التحميل»، وانتظار ساعات، يدور محرك البوسطة معلنًا بداية المرحلة الثالثة مع سجن جديد والإجراءات نفسها... قبل المرحلة الرابعة، وهي الأخيرة في يوم البوسطة الأول الطويل الذي ينتهي في ساعة متأخرة من الليل. في هذه النقطة الأخيرة من الرحلة، يسوق أفراد «نحشون» الأسرى إلى قسم في نقطة تجمع البوسطات، داخل سجن الرملة، يطلق عليه اسم المعبار، وهو عبارة عن غرفة لا تصلح للحياة البشرية، ويقدّم للأسرى فيها أسوأ انواع الشراب والطعام، ويمكثون فيها إلى اليوم التالي في رحلة العذاب التي تُستأنف بدءاً من الثالثة والنصف فجرًا. اليوم الثاني يشبه الأول وبقية الأيام التي تستغرقها رحلة البوسطة.
وأريد أن احيطكم علمًا بأن بالإمكان نقل الأسير مكان أسير آخر مباشرة من دون الحاجة إلى البوسطة بكل سهولة ويسر، ويستغرق النقل المباشر من ٤٥ دقيقة إلى ساعتين، ولكن كما شرحت سابقًا هي وسيلة للتعذيب فقط. بعد كل هذا، عندما تتردد على مسامع الأسير اغنية «هدير البوسطة» تقلّب عليه أوجاعه وذكريات هدير آخر هوَ هدير العذاب.

* أسير فلسطيني معتقل في سجن ريمون، تاريخ الاعتقال 18/09/2016، محكوم 12 سنة ونصف