قصص الناس ومرويّات حياتهم اليومية لا تترك مجالاً للشك بأن هناك انفجاراً قادماً. فرغم أن المسار العام للأزمة لم يشهد أيّ تبدّلات جذرية، إلا أن مقوّمات الصمود باتت أضعف. الجميع يدرك بأن هذه القدرة تتآكل يومياً مع ارتفاع سعر الدولار وزيادة أسعار المحروقات والاتصالات والتعليم والغذاء والمواد المنزلية والشخصية... والمفارقة أن كل ذلك يأتي بعد انتهاء الانتخابات التي أفرزت نشوة انتصار لدى الجميع. فهل يدرك الناس أن الانتخابات لا تهزم الانهيار ولا توقف مفاعيله؟الحكايات تتشابه في المأساة، وإن كانت الهواجس تختلف بين فئة وأخرى. فالعاملون في القطاع العام لديهم وضع يختلف عن العاملين في القطاع الخاص، أو عن العاملين لحسابهم أو من يعملون في المهن الحرّة. الروايات التالية قد لا تختصر المشهد، إنما تقدّم مؤشّراً واقعياً على طبيعته بعد الانتخابات النيابية وكل ما خلقته في أذهان الناس شعارات الوهم الطائفية.
تتحدث ندى، وهي معلمة لغة عربية في مدرسة الخاصة في بيروت، كيف أن «دوام العمل الرسمي في المدرسة لم يعد يكفي. راتبي مع بدل النقل لا يزيد على 4 ملايين و500 ألف ليرة، أي أقل من كلفة اشتراك الموتور. الكثير من الأساتذة باتوا يتّكلون على الدروس الخصوصية، ومن دونها هنالك استحالة للاستمرار. لم أعط أي دروس خصوصية منذ 7 سنوات، لكنني اليوم مضطرّة». وتكشف عن فروقات بين أساتذة الخاص والرسمي لجهة الكلفة التي يتقاضونها للدروس الخصوصية «فمن حسن حظ الأساتذة في المدارس الخاصة، أن هناك عائلات ميسورة يمكنها أن تتحمل كلفة الساعة التي تصل إلى 500 ألف ليرة. قد يبدو الرقم كبيراً، لكن إذا احتسبنا كلفة النقل والمجهود الإضافي الذي نبذله والقدرة الشرائية لهذا المبلغ، يتبيّن أنه يبقى أفضل من لا شيء». وتداعيات الأزمة على الأساتذة لا تتعلق بمداخيلهم فحسب، إذ كانت لديهم ميزات؛ من أبرزها تعليم أولادهم في المدارس التي يعملون فيها، لكنّ «كثيرين منهم غادروا مجال التعليم أو هاجروا».
ارتفع سعر الدولار ومعه ارتفعت سائر الأسعار مثل المحروقات والغذاء


إدي طويل (حلاق نسائي) لديه مشكلة متصلة: «كنا نعمل لنأكل. الآن لم يعد بإمكاننا حتى أن نأكل. في ظرف 10 أيام انهارت الليرة من 27 ألف ليرة مقابل الدولار إلى 36 ألفاً. نعيش على الرزّ المسلوق وسطل اللبن. تعبت من النقّ. الشغل متوقف، وبالكاد تزورنا زبونة أو اثنتان في اليوم. على أيّ أساس نسعّر؟ كيف نبيع البضاعة إذا كان سعر صرف الدولار يتبدّل في اليوم عدّة مرات؟ كلفة الصبغة مع البراشينغ 10دولارات، أي 360 ألف ليرة حالياً. من يمكنه دفع هذا المبلغ؟ النساء توفر المال لتحضير طبخة أو شراء نصف كيلو لحمة». ويؤكّد بأنه لم يعد يملك الإمكانات لتعبئة البنزين في السيارة: «من حسن حظي أن عملي قريب من منزلي. فعلياً أعمل بالسخرة. حين يكون الاشتراك مقطوعاً أشغّل مولّدي الخاص. كل تشغيلة تكلّفني 60 ألف ليرة، لكي أتقاضى 60 ألفاً ثمن سيشوار. شو بعمل؟ مضطرّ كي لا أخسر الزبائن». أما الحل فهو «الهجرة. إذا وجدت فرصة عمل في الخارج ولو بـ 1000 دولار، فأنا مستعد للرحيل. أقلّه أرسل لزوجتي وأولادي 500 دولار في الشهر ليعيشوا بكرامتهم».
نبيه، مهندس معماري يعمل في شركة تعنى بالتصميم الداخلي، يشير بحسرة إلى تآكل قيمة راتبه: «لا يمكننا أن نشارط صاحب العمل، أو أن نطالب بزودة، فعدد المهندسين العاطلين من العمل كبير جداً، وكثيرون على استعداد للعمل بأيّ راتب. مع كل صعود للدولار، تنهار رواتبنا أكثر. لا أعلم كم أتقاضى تحديداً. في كل يوم تتبدل قيمة المعاش». ويلفت إلى أن «ما كان يفترض أن توفّره لي شهادة الهندسة من نمط حياة معيّن أصبح وهماً. في وقت فراغي أعمل مع أهلي في مؤسّسة نملكها لتأمين مدخول إضافي بسيط يساعدني على تحمل كلفة البنزين».
يقضي موظف المبيعات داني رزق معظم ساعات النهار على الطريق متنقلاً بين مكان وآخر «وهذا ما كان يجبرني على تناول الغداء في المطاعم أو السناك. لكن اليوم، أصبر لحين عودتي إلى المنزل لأن لا إمكانية لديّ لأدفع 200 ألف ليرة ثمن سندويشتين. أفضّل توفير المبلغ لطبخة تستفيد منها العائلة بأكملها». أما عن كلفة النقل، فيوضح أن «الشركة تتكفل بها، لكنها حسابياً توازي مجمل ما أتقاضاه كراتب ثابت وعمولات على المبيعات. لو كان البنزين على نفقتي كنت بقيت في البيت».
وعلى مقلب المؤسّسات العسكرية والأمنية، هناك الكثير من العناصر باتوا يبحثون عن فرص عمل أخرى خارج الدوام، في ظل غضّ نظر من المسؤولين «الكثير من العناصر ما عاد توفّي معهم الخدمة 3 بـ 3، ويطلبون أن يخدموا 10 أيام وأن يغيبوا 10 أيام لتوفير كلفة النقل»، وفق أحد الجنود. وتشير أوساط العديد من عائلات الجنود إلى أن «الطبابة المجانية هي المحفّز الأكبر على البقاء في الجيش، نظراً إلى الكلفة الخيالية للاستشفاء». لا تنكر العائلات الجهود الكبيرة للقيادة العسكرية في محاولة توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم لكن «الانهيار يزداد سرعة، وأغلبنا يعاني منذ ما قبل ظهور الأزمة».