...عندما وصلت إلى بيت ياحون، كان الموقع قد تحرّر والناس يعملون على إفراغه من الأغراض والمعدّات. فجأة بدأ إطلاق النار من منطقة صفّ الهوى. أظنّ أنه كان يستهدف منطقة رشاف. بعدها، بدأنا نسمع دويّ قصفٍ مدفعي على طريق رشاف وأصوات الرصاص على طريق كونين - بيت ياحون. لم أعد أعرف ماذا أفعل، هل أعود إلى بيت ياحون، أو أدخل إلى كونين؟ أذكر أنني التقيت بأحدهم، وهو شيخ، فقلت في نفسي من الأفضل أن أبقى برفقته وخصوصاً أنه يعرفني شخصياً. قلت له «ماذا سنفعل؟»، فقال لي «ابقَ معنا… يسواك ما يسوانا». بعد قليل، قال الشيخ «اصعد إلى السيارة»، وانطلقنا باتجاه كونين تحت مرمى النيران، بينما عاد الآخرون إلى بيت ياحون.
الحصار في كونين
وصلنا إلى كونين ونزلنا من السيارة بسرعة لأن مروحيات العدو باتت في الجو. احتمينا في أحد البيوت، والتقينا بعدد من الشباب كانوا قد سبقونا. في الخارج، كان أهالي القرية يرقصون ويصفقون، بينما إطلاق النيران مستمرّ ما يمنع التحرّك من البلدة. توجّهنا إلى الجامع للصلاة، وحضر أهالي القرية فأقيمت صلاة الجماعة. كانت فرحة الأهالي كبيرة، وقالوا لنا «شو بدكم نحنا بالخدمة»، ثم ذهب حوالي أربعة رجال منهم وعادوا بعد وقت وهم يحملون إلينا الطعام الذي أعدّته النسوة في القرية.
عند حوالي الساعة الثالثة عصراً، اشتدّ القصف على موقع برعشيت وهرب العملاء اللحديون من هناك. في ذلك الوقت، كنت أجلس على مصطبة المسجد أنتظر الشيخ لأعرف ما الذي يجب أن نفعله. لم نكن نعرف ما الذي يجري في بقية القرى، وكنا نتابع فقط عبر الهاتف. اتصل أحدهم بالشيخ، وكنت واقفاً إلى جانبه، وسمعته يقول «جمّع الناس، وإذا قادرين تفوتوا فوتوا».

إطلالة على «المنار»
عند السابعة والنصف، كان موعد نشرة الأخبار على قناة المنار، فقلت للشيخ «ما رأيك أن تروي ما حدث على قناة المنار؟». أتذكّر بأنني كنت أسهّل الموضوع لذلك، إذ أجريت اتصالاً مع أحدهم في القناة وقلت له إننا في كونين التي باتت محاصرة بالنيران، فقال لي: هل تستطيعون التحدّث من هناك؟ فأجبته بأنني لا أستطيع التحدّث، ولكن يوجد إلى جانبي الشيخ المسؤول وهذا رقم هاتفه. بعد ذلك، قلت للشيخ «منيح تحكي على المنار»، وأعلمته بأنهم سوف يتصلون به، فقال لي «اتّكلنا على الله». اتصلوا به ليتحدّث «مباشر» خلال النشرة. أذكر بأنه قال لهم «نحن الآن في كونين، ومئات الشباب موجودون هنا بكامل عتادهم». وبعدما أنهى الاتصال، بادرته بالقول «شو يا شيخ، في أنا وايّاك وثلاثة آخرون». عندها قال لي «لقد تحدّثت مع فلان، وهو من قال لي إن شبابنا منتشرون. لا تبال بالأمر».
استمرّ القصف على الطريق حتى الساعة الواحدة ليلاً. حتى إنني أذكر في ذلك اليوم قبل الظهر، أني نظرت إلى السماء خارج المسجد، وكانت مروحيات «الأباتشي» ترمي البيوت في بيت ياحون. وفي حينه دخلت إلى المسجد وقلت للشباب بأن يدخلوا كي لا يسقط الرصاص الفارغ فوق رؤوسنا.

الانسحاب من صفّ الهوى
استيقظنا عند الفجر لأداء صلاة الصبح، ورأينا السيارات التي كانت تدخل من بيت ياحون. اتصل الشباب بالشيخ وقالوا له «نحن سنجتمع في كونين لأن الإسرائيليين انسحبوا من صفّ الهوى ومن ثكنة الـ 17 أيضاً». عندها، قصدنا ساحة كونين فوجدنا أعداداً كبيرة من الشباب يعلّقون رايات حزب الله على الأعمدة في الساحة. صعدنا بالسيارات عند شروق الشمس وسرنا موكباً واحداً باتجاه طريق صف الهوى ــــ بنت جبيل.
عند السادسة صباحاً، كنا في بنت جبيل، وكانت وفود الناس تأتي إلى المدينة وتلتقي ببعضها البعض هناك، وتحوّل كل شيء إلى ساحة احتفال: طبل ورقص ونثر للأرزّ والورود. عندما وصلنا إلى ساحة بنت جبيل، توقفنا بجانب مركز الأمن، وهو المكان الذي كانوا يضعون فيه المعتقلين قبل أن يرسلوهم إلى معتقل الخيام. في تلك اللحظة، دخل عدد من الشباب مع أحدهم إلى المركز وخلعوا باب الأمن العسكري، ومنعوا الناس من الدخول خلفهم. أظنّهم كانوا يحاولون لملمة الوثائق التي تركها العملاء. في الخارج، كانت الجموع لا تزال تتوافد في السيارات، والبعض منهم يحمل الطبول.

تفجير موقع بيت ياحون
كان أول ما رأيته مشهد الناس المحتفلين بالتحرير. يعانق أحدهم الآخر ويبكي. كان بكاء الفرح، ولا أعرف إن كانت نسوة المدينة قد جهّزن مسبقاً لذلك، ولكنّي رأيت صواني الأرزّ المزيّنة بالورود. بعد ذلك، عندما بدأ يتوافد مراسلو الإعلام، عدت إلى بيت ياحون لأحضر سيارتي، وهناك وجدت مراسل قناة «المنار» ومعه أحد المجاهدين. قال لي الأخير «نريد أن نصوّر تفجير موقع بيت ياحون مباشرة على الهواء على قناة المنار». كانت فكرة جميلة أن يرى الناس في كل الدول العربية تفجير موقع بيت ياحون على الهواء مباشرة. كنت إلى جانب المراسل عندما كان يقول «الآن سوف تشاهدون انفجار موقع بيت ياحون مباشرة على الهواء»، وهو يشير بيده إلى الموقع خلفه. وفي تلك اللحظة، قصدت طريق بيت ياحون القديمة لكي ألتقط الصورة من الزاوية الأخرى. سرت نحو مكان بعيد بعض الشيء حتى اقتربت. جلست خلف صخرة على الطريق وثبّتت الكاميرا، وبعدها وقع الانفجار وتطايرت شظايا الحديد من الموقع على الطريق حيث كنا، لكن «الحمد لله انقضت على سلامة».

زيارة الشهداء
بعدها جلت في كامل المنطقة المحرّرة. كانت أول مرة أرى فيها فلسطين من العديسة والمطلّة. قالوا لي يومها «هذه كريات شمونة». كنت أسمع هذا الاسم على شاشة التلفاز. في عام 1996 مثلاً، خلال حرب عناقيد الغضب، كنت أسمع بأن المقاومة الإسلامية أطلقت صلية من صواريخ «الكاتيوشا» على مستعمرة كريات شمونة. قلت: هذه كريات شمونة التي كنا نستهدفها بالصواريخ وهذه هي البيوت. هذه فلسطين وهذا هواء فلسطين. هذه كفركلا (…).
كان أول ما أردته هو الذهاب إلى الأماكن التي استشهد فيها أصدقائي، وكان أول مكانٍ ذهبت إليه هو مكان استشهاد سعيد فرّان في سجد. ذهبت إلى هناك برفقة والدته. كان ذلك بعد التحرير بـ 15 يوماً تقريباً. رافقتها إلى مكان استشهاده، سرنا على السواتر وصولاً إلى مكان استشهاده تماماً. كان المشهد مؤثراً جداً. كانت تحضن التراب والصخرة وتبكي، ثم استدارت نحوي وغمرتني وبدأنا بالبكاء.

«سعيد»