تثبيت الذاكرة ليس مسألة ثانوية في تاريخ الشعوب. الحكايات التي تعود إلى أحداث عمرها مئات وآلاف السنين، لم تكن لتعيش لولا أن هناك من آمن بها وحفظها، وما أكله اليباس لا تحمله الأرض ولا تُبقيه الرياح.لبنان، ليس نموذجاً مختلفاً عن بلدان العالم. كلّ الانقسامات القائمة حول الهُوية الوطنية والتاريخ والثقافة واللغة وأسلوب الحياة، لن تغيّر في حقيقة أن لبنان يعاني من عوارض ولادة غير طبيعية. ولادة لم يُقطع معها حبل السرّة بينه وبين من أنجبه. وليس صدفةً أن ينجح الاستعمار طوال عقود، في إقناع الناس هنا، بأن التبعية للخارج إنّما هي فعل تلقائي طالما لا وجود لهُوية وطنية أصلية.
وهم أن نقنع أنفسنا، اليوم وفي الغد القريب، بتوافق حقيقي على نهائية هذا الوطن ومكانته ودوره. لكنّ الصحيح والمؤلم، هو أنّ الانقسامات تحول دون تثبيت الوقائع الصلبة التي عشناها خلال مئة عام، وهي انقسامات تستند إلى حقد يجعل الإنكار أمراً عادياً، وهو ما يجعل لبنان مهدّداً طوال الوقت بالموت والاندثار.
ولأنّ التوافق يصبح صعباً على التوصيف وليس على التشخيص فقط، يكون لزاماً على الناس أن يدافعوا عن حقائقهم، أن يدافعوا عن ذاكرة ليست من بنات الخيال، بل هي نتاج أفعال كبيرة، شهدت تضحيات بالدماء والأرزاق. وهي ذاكرة تقول بأن في لبنان أرضاً خصبة لزرع وطني، له جذوره غير القابلة للاقتلاع، وله زهره الذي لا تهزمه الرياح.
قبل 22 عاماً، أنجز لبنانيون أقحاح، وُلدوا وعاشوا في هذه الأرض، أكبر إنجاز وطني خالص في تاريخ هذا البلد. طُرد الاحتلال كما يجب أن يُطرد، بقوة الحديد والنار. واستُردّت الأرض والناس من دون مقايضة مع عدوّ يترصّدنا كلّ يوم، ليس لضرب إنجازنا هذا، بل لمحوه من ذاكرتنا، وإعادة الاعتبار إلى فكرة التبعية مكان بذرة الاستقلال الحقيقي التي زُرعت في 25 أيار 2000.
صحيح أننا نموت جوعاً وفقراً وقهراً على أيدي حكام، صنع الاستعمار معظمهم ولا يزالون يعيشون في حمايته، لكنّ ذلك لا يجب أن يمنعنا من رفع الصور الجميلة التي تثبت فعلاً غير مسبوق في بلادنا ومنطقتنا، وهو فعل له ما بعده، فعل معدٍ لشعوب تواجه الاستعمار بالقرب منا أو على مسافة بعيدة...
حفظ ذاكرة انتصار أيار عام 2000، واجب مثل واجب حفظ الأسماء والأمكنة. ولنتذكّر في كلّ لحظة، بأنّ ما حصل في ذلك التاريخ، سيبقى هو الشيء الحقيقي الثابت وسط خواء يسكن أيامنا.