تغاضت حكومة «معاً للإنقاذ» الميقاتية عن إنقاذ الجامعة اللبنانية وإقرار ملفاتها، على الرغم من الإضراب الذي اعتُبِر الأطول في تاريخ الجامعة وأعلنه الأساتذة المتفرّغون والمتعاقدون والمدرّبون، واستمرّ ما يقرب من الأشهر الثمانية. دخلت الحكومة مرحلة تصريف الأعمال من دون أن تضع على جدول أعمالها الملفات الحيوية للجامعة اللبنانية المرفوعة من رئاسة الجامعة (منذ أشهر) إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. واكتفت في جلستها الأخيرة بتقديم رشوة للأساتذة من خلال الموافقة على تحويل المساعدة الاجتماعية لهم، وتهريب بعض القرارات ضمن منطق المحاصصة. هكذا إذاً، لم يرفّ جفن السلطة التنفيذية أمام المخاطر التي تهدد مستقبل 80 ألف طالب جامعي في أكبر عملية «إهمالٍ مستدام» للأجيال القادمة. إذْ لم تفلح كل الضغوط التي مارسها أهل الجامعة، من خلال عشرات الاعتصامات والتحرّكات والتقارير الإعلامية المحذّرة من المخاطر المحدقة بالجامعة، كي يبادر المعنيون ويقومون ولو بخطوةٍ «خجولة» لإنقاذ التعليم العالي في البلاد وضمانه لأجيال لبنان الآتية.
لم تُترجَم الوعود بالدعم التي حصل عليها الأساتذة المتفرغون والمتعاقدون في الاجتماعات التي عُقدت مع رئيس الحكومة ووزير التربية، ولا تلك التي أطلقها ممثلو ورؤساء الكتل النيابية الذين التقتهم اللجنة التمثيلية للأساتذة المتعاقدين. ولم تنفع، كذلك، كل المحاولات للقاء رئيس الجمهورية أو رئيس التيار الوطني الحر أو الوزير الياس أبو صعب.
وأكثر من ذلك. أمعنت الحكومة في ضرب الجامعة، من خلال إصرارها على عدم زيادة موازنتها، كما فعلت مع الوزارات والإدارات العامة التي تضاعفت مصاريفها التشغيلية عشرة أضعاف، بينما بقيت موازنة الجامعة كما كانت عليه عام 2019، وعلى الرغم من تأكّدها (السلطة) وبالأرقام من كون هذه الموازنة لا تكفي لتشغيل الجامعة حضورياً سوى لشهرين.
والأنكى أيضاً، أنّ القوى السياسية الرئيسية، الممثَّلة بأحزاب الطوائف مجتمعةً، لم تبذل جهداً جدّياً لإنقاذ الجامعة؛ فاقتصر دور بعض القوى الممثَّلة في الحكومة على القيام ببعض الاتصالات مع بعض القوى المختلفة على المحاصصة في ملف العمداء، لمحاولة تقريب وجهات النظر بين المتحاصصين، من دون أن يُكتب لها النجاح. أما القوى التي كانت تاريخياً إلى جانب الجامعة اللبنانية، وشاركت في النضال من أجلها (وأعني بها القوى اليسارية) فقد غابت كلياً عن هذا التحرك، ولم يكن لها أي دور. ولا بدّ من تسجيل غيابٍ مدوٍّ للجامعة وقضاياها عن برامج جميع المرشّحين «التغييريين» للانتخابات (باستثناء مرشح واحد بحكم موقعه الوظيفي). وحدهم، حفنة من الأساتذة المتعاقدين والمتفرغين والملاك، خاضوا معركة الدفاع عن الجامعة اللبنانية بـ«اللحم الحيّ»، في تجربة لها ما لها وعليها ما عليها.
قد يكون مفهوماً الإهمال المتعمَّد من قبل السلطة السياسية ممثَّلةً بالحكومة ومن يتمثَّل بها، ولكنّ التساؤلات التي تطرح نفسها وبشدّة هي: أين هو المجتمع اللبناني من قضيةٍ بحجم «مصير الجامعة اللبنانية»؟ أين هي القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة بجامعةٍ منتجة للعلم ومتطورة؟ أين هم طلاب الجامعة اللبنانية من المصير الذي يهدّد جامعتهم ويهدد مستقبل أقاربهم وأولادهم والأجيال القادمة في حقهم في التعليم العالي؟ وكيف يُفسَّر هذا الغياب المدوّي؟
إن قراءة تاريخ التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أي بلد يُشير، وبوضوح، إلى الدور الفاعل والمؤثر للكتلة الاجتماعية الحرجة CRITCAL MASS، والتي تتمثل عادةً بمجموعةٍ من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والاقتصاديين والثقافيين من ذوي الخلفيات المختلفة. كلّهم يتّفقون على هدفٍ استراتيجيّ واحد يعملون من أجله، وهو أن يكونوا «رأس الحربة» في عملية الصراع وفي قيادته. وعندما تغيب هذه الكتلة، تتعطل عملية التغيير وتبدأ مرحلة المراوحة والدوران في حلقة الأزمة المفرغة. وتُشير هذه التجارب، إلى أنّ الكتلة ليست مجرد حزب أو مجموعة أحزاب، بل إنها تتشكّل من القوى الاجتماعية المختلفة التي تعبّر عن مضمون اجتماعي، وتكون قادرة على ممارسة الفعل الاجتماعي. ولا يُسْتَثنى منها أي طرف من الأطراف، إلّا من يقف ضد القضية التي تناضل هذه الكتلة من أجل تحقيقها، سواء أكان من اليمين أو اليسار، ومن قوى دينية أو علمانية.
لقد كان لهذه الكتلة الاجتماعية اللبنانية «الحرجة» دور أساسي في إنشاء الجامعة وتطوّرها، حيث شاركت قوى وأحزاب ومجموعات سياسية ضمّت قوى يسارية وبعض الشخصيات اليمينية؛ وتحلّق حولها طلاب لبنان، بمن فيهم طلاب الجامعات الخاصّة آنذاك، والتفّت حولها الحركة النقابية، بمختلف مشاربها. واستطاعت هذه الكتلة أن تفرض حالة وطنية حول قضية إنشاء الجامعة، ولم يكن بمقدور القوى السلطوية، يومذاك، إلّا أن تنصاع لإرادتها وتُنشئ الجامعة اللبنانية في شباط من عام 1951 عقب سلسلة من التحركات الحاشدة، والتي سقط فيها الشهيد فرج الله حنين كأوّل شهيدٍ للحركة الطلابية. استمرت هذه الكتلة، التي شكّل الطلاب حجر الزاوية فيها، في تحقيق النجاحات والإنجازات التي أفضت إلى وجود الجامعة اللبنانية بصورتها المزدهرة.

ما هو واقع الجامعة الآن؟
بدأ التدهور في وضع الجامعة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتكرّس مع سيطرة منطق المحاصصة عبر المرسوم 42 لعام 1997، والذي بموجبه تم الاتفاق بين رئيسيْ مجلس النواب والوزراء على أن يكون منصب رئيس الجامعة من حصة الأوّل، مقابل تجريد مجلس الجامعة من جزءٍ من صلاحياته وإعطائها لمجلس الوزراء. ولا سيّما في ما يتعلّق بتفرغ الأساتذة ودخولهم إلى الملاك؛ ومذّاك، سيطر منطق المحاصصة بين القوى السلطوية الطائفية على كل القرارات. وهكذا، بدأت مسيرة تطويع الأساتذة للحصول على رضى الأحزاب السلطوية والزعامات الطائفية، لأن الدخول إلى «جنة» الجامعة لا يمكن أن يمرّ من دون هذا الرضى.
غيابٌ مدوٍّ للجامعة وقضاياها عن برامج جميع المرشّحين «التغييريّين» للانتخابات


تعمّقت عملية التطويع عبر المحاصصة في تعيين العمداء على أساس انتماءاتهم الطائفية والحزبية. واستُتبع هذا النهج مع مدراء الفروع الذين طُوّبت مواقعهم للقوى نفسها، وأصبحت قاعدة المداورة محصورة في ما بينهم، وفي بعض الأحيان تتم بالتناوب.
ولم يقتصر الأمر على المواقع الإدارية فقط، بل استُكمِل هذا التطويع للجامعة ومؤسساتها، عبر الإمساك برابطة الأساتذة المتفرّغين من خلال الأساتذة الذين تمّ استيعابهم بالآليات الطائفية. وساد العُرف الطائفي بين المواقع الثلاثة (رئيس، نائب الرئيس ورئيس مجلس المندوبين)، وأصبح انتخاب كلٍّ منهم يتم وفق معادلةٍ طائفية محسوبة في كل دورة انتخابية. وطغى مسار التطويع هذا، من خلال منطق المحاصصة في الإطار النقابي الأوّل في الجامعة على حساب منطق الدفاع عنها، وبات «النضال النقابي» محصوراً في «عنوان» تحسين الوضع المادي لأفراد الهيئة التعليمية.

أين هم طلاب الجامعة اللبنانية من كلّ ذلك؟
تفتقد الجامعة إلى روح الحركات الطلابية ونضالاتها، فالتهميش الذي قامت به السلطة وقواها للشباب اللبناني، وإقصاؤهم عن المشاركة، اللهمّ إلّا في القضايا ذات البُعد الحزبي- الطائفي أو تلك التي تهمّ هذه القوى، قد أدّيا إلى شرذمة الحركة الطلابية، وإلى قتل الروح النضالية لدى طلاب لبنان، عامّة، والجامعة اللبنانية، خاصّة. وتعززت هذه الممارسة داخل الجامعة، عبر تعطيل الانتخابات الطلابية مقابل إطلاق عملية «التوريث الحزبي» لممثلي مجالس الفروع في الكليات، وعليه بدأت علاقة زبائنية بين الطلاب والإدارة وتلك المجالس (مثل تزويدهم بمقررات المحاضرات والأسئلة التي طرحت في الدورات السابقة، إلى جانب القيام ببعض الدورات للطلاب الذين لم يتمكنوا من حضور المحاضرات).
في ظلّ هذا الإقصاء والتهميش للجامعة والمجتمع، أسئلة أخرى تطرح نفسها: هل يعود مستغرَباً أن تدعو رابطة الأساتذة المتفرغين واللجنة التمثيلية للأساتذة المتعاقدين بالساعة إلى اعتصامات لا يشارك فيها سوى بضع عشرات من الأساتذة (تتكرّر فيها الوجوه ذاتها)؟ لماذا ينكفئ الأساتذة عن المشاركة في التحركات من أجل مطالبهم المحقة؟ وماذا يعني أن يخرق الأساتذة المتعاقدون والمتفرغون الإضراب ويعودون إلى التعليم، وألّا يلتزموا بالتوقف القسري الذي أعلنته الرابطة؟ ماذا يعني، أيضاً، أن يغيب طلاب الجامعة عن المشاركة في التحرّكات من أجل جامعتهم، ويصبح جلّ همّهم إجراء الامتحان والظفر بالشهادة على قاعدة «يا ربي نفسي»، بغضّ النظر عمّا سيحلّ بالجامعة خلال العام المقبل؟
لقد فعل منطق المحاصصة، الذي مارسته القوى السلطوية الطائفية على الجامعة، فعله في الأساتذة (بكل فئاتهم ومسمياتهم) والطلاب، حتى أنّ جزءاً كبيراً من الذين شاركوا في التحركات، حرّكهم المنطق الطائفي الذي استخدمته السلطة الطائفية. سواء كان ذلك من خلال مطالبة البعض بمراعاة «التوازن الطائفي» في أي نشاط، أو حتى من خلال المطالبة العلنية «بالتفرّغ لكل مستحق»، والتمييز الضمني بين «ملفٍ قابل للإقرار» و«ملفٍ غير قابل للإقرار»!
هذا داخل الجامعة، أما في خارجها، فقد جرى إخصاء كل الأُطر النقابية والسيطرة عليها بمنطق المحاصصة الطائفية ذاتها، ولا سيّما في الاتحاد العمالي العام الذي أُغرق «بتفريخ» النقابات والاتحادات، بحيث أصبح لكلّ حزب أو تيار سياسي نقاباته واتحاداته الطائفية. واستُكمل الأمر بالإمساك «بهيئة التنسيق النقابية» و«روابط التعليم الأساسي والخاص»، وفي «نقابات المهن الحرة»، التي تُجرى الانتخابات فيها بين هذه القوى الطائفية، فتتحالف وتتخاصم ضمن قاعدة المحاصصة، وليس على أساس البرامج الاجتماعية والمطلبية.
في ظلّ هذا الواقع، ورغم كثرة التحركات والاعتصامات التي دعا إليها أهل الجامعة والحملات الإعلامية التي حذّرت من المخاطر التي تهدّد مصير الجامعة، لم يكن هناك أيّ التفاف أو مشاركة فاعلة لقوى اجتماعية ونقابية حول جامعة الوطن.
يُظهِر هذا الواقع، أنّ الجامعة اللبنانية تعيش اليوم حالةً تشبه «اليُتم» من حولها، بتخلي السلطة عنها، وانفضاض «القوى الاجتماعية»، التي التفّت حولها سابقاً، وتقاعس أهلها عن نصرتها. تُركَت الجامعة اللبنانية لمصيرها، مجرّدةً من أي نصير أو مدافع عنها، وعُرضةً للتناتش بين أهل السلطة.
ليس اليُتم هو التوصيف الوحيد لحال الجامعة؛ بل هناك التآمر، بكلّ ما للكلمة من معنى! تعاني الجامعة اليوم من تآمر حقيقي لبعض القوى السلطوية عليها، بعضها موجود داخل الحكومة وبعضها الآخر خارجها. وهذه القوى تسعى، كما بات واضحاً، إلى تقسيم الجامعة الوطنية رسمياً، بعد شرذمتها إلى فروعٍ ملوّنة طائفياً. فالدعوات الفردية التي حملها «البعض» إلى إنشاء جامعات مناطقية مستقلة بحجة «الإصلاح»، بدأت تتمظهر لدى قوى تعمل، وبشكلٍ ممنهج، على تنفيذ هذا التقسيم ربطاً بالدعوة إلى تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة. وفي هذا الإطار، يصبح الإمعان في إضعاف الجامعة وتسريع انهيارها والانقضاض عليها، في اللحظة المناسبة، ليس إلّا مقدمةً لتبرير الدعوة إلى تقسيمها، بحجة إخراجها من الأزمة والنهوض بها!!
إذاً، نحن أمام سياسة غير معلنة ولكنّها واضحة، تهدف إلى عدم القيام بأي خطوات تساهم في إخراج الجامعة من مسار الانهيار الذي تعيشه. لكن، ما هو السبيل لمنع تحقيق هذه المخططات؟
الجامعة اللبنانية في خطر. لكنّ إنقاذها متاح. ولا يمكن لهذا الإنقاذ أن يكون، إلّا من خلال التفاف كتلة اجتماعية تدافع عن جامعة الوطن، وتفرض انتزاع حقوقها، وتواجه بشراسة نظام المحاصصة الذي يمضي قُدماً في الإمساك بالمفاصل الأساسية لمؤسسات الدولة.
ويمكن لهذه الكتلة أن تكون فعّالة جداً، إذا ما تشكّلت من القوى صاحبة المصلحة الفعلية بوجود جامعة لبنانية موحدة. مثلما تشكّلت، في الخمسينيات والستينيات، الكتلة الاجتماعية التي ناضلت من أجل إنشاء الجامعة. وضمّت قوى في السلطة وخارجها، يمكن أن تتشكل هذه الكتلة، اليوم، من كل القوى الحيّة في المجتمع، في السلطة وخارجها، شرط تخليها عن المنطق السلطوي- التحاصصي في التعامل مع قضايا الجامعة. ولا بأس من التذكير، أنّ أولى القضايا التي يجب العمل عليها هي إلغاء المرسوم رقم 42 لعام 1997 وإعادة الصلاحيات لمجلس الجامعة، وإخراج الجامعة من المنطق التحاصصي السلطوي، ووضع خطة إنقاذ للجامعة كأولوية تمنع الانهيار التربوي بعد الانهيار الاقتصادي.

*أستاذ متعاقد في الجامعة اللبنانية