خلال التحقيقات في حالات الانتحار المشبوهة، يوفر تطبيق العلم الجنائي معلومات ليس فقط عمّا حدث عند ارتكاب الجريمة، وإنّما أيضاً ما لم يحدث. كلّ ذلك باستخدام الأساليب العلمية، والأدلة المادية، والمنطق الاستنتاجي، وعلاقاتها المتبادلة. ما إن ينتهي الخبراء الجنائيون من استنتاجاتهم، استناداً إلى هذا التحليل العلمي، حتّى يتم تسليم التقرير إلى المحققين ما قد يُغيّر في بعض الأحيان مسار التحقيق بأكمله. إذ تُساعد هذه الاستنتاجات على تأكيد أو استبعاد فرضية الانتحار، إعادة بناء الجريمة، تأييد إفادات الشهود أو حتّى دحضها، والأهم إدراج أو استبعاد الجناة المحتملين من التحقيق. لهذا الغرض، في حالات الانتحار المشبوهة، على الخبير أن يناقش ثلاث فرضيات: الانتحار، الموت العرضي والقتل. لتبيان الحقيقة، على الخبير إجراء كل التجارب العلمية اللازمة واستعمال التحليل الجنائي لمعرفة الفرضية التي تتطابق مع ظروف الجريمة والدلائل المادية للقضية. فيكون «الانتحار» هو نتيجة خلاصة علمية وليس تكهنات وتحليلات استباقية، الأمر الذي يضلل التحقيق. كي لا تضيع الحقيقة، وكي لا يفلت القاتل، من المفترض التحقيق في مشهد الوفاة بشكل دقيق وشامل والابتعاد عن الاحكام المسبقة والتحليلات غير العلمية لتحديد ما إذا كانت وفاة شخص ما انتحارًا أم قتلًا. غالبًا ما تكون حالات الانتحار والقتل مع سبق الإصرار، لكن الفارق بين الاثنين هو ما إذا كان قد تم مع سبق الإصرار من قبل المتوفى (الانتحار) أو من قبل شخص آخر (القتل)
المشهد الأوّلي
عندما يلقي المحققون نظرة على مسرح الجريمة، يجب النظر إلى جوانب مختلفة، بما في ذلك يتم موقع الجثة ووضع السلاح والأدلة الأخرى وأي شيء يبدو خارجًا عن المألوف. تشرح المؤشرات الأخرى في المشهد، مثل أنماط تناثر الدم، ومسار الجرح الناتج عن طلق ناري، وحتى علامات صراع أو جروح دفاعية، ما إذا كان المشهد قد تمت فبركته على أنه انتحار. الى ذلك، في حالة الانتحار، لن يُظهر المشهد في كثير من الأحيان أي مؤشر على وجود شخص في منتصف روتين مثل الغسيل أو الطهي أو التنظيف.

انقر على الصورة لتكبيرها


سبب الوفاة الأساسي
إضافة إلى التحقيق في مكان وفاة الشخص، فإن النظر في الإصابات الدقيقة التي تسببت في وفاة الشخص يمكن أن تشير إلى ما إذا كان ينبغي استبعاد فرضية الانتحار أو القتل، اذ ان الاستعجال في الحسم يضلّل التحقيق ويحرف مسار العدالة. ففي بعض الحالات، قد يستنتج القائمون على التحقيق أن المشهد يشير إلى «انتحار»، لمجرد أن القتل لا يبدو واضحًا، الا إن نظرة فاحصة يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا في القضية.
لا سيما ان هناك العديد من الحالات التي تم فيها تدبير موت شخص ليبدو وكأنه انتحار عن طريق الشنق. مع ذلك، بعد الفحص الدقيق، قد يجد الخبراء أن الضحية تعاني إصابات تشير إلى الخنق اليدوي أو حتى كسر في الرقبة (إصابة نادرة في الانتحار)، وكنا قد عالجنا هذا الموضوع في العدد الثالث من «القوس». ففي حالة الانتحار المحتملة، من المهم دائمًا تعيين خبير جنائي لتحديد ما إذا كانت وفاة الشخص من فعله أو تم تنفيذها بواسطة شخص آخر أو أشخاص.

تقرير الطبيب الشرعي
تتمثل المشكلة الأساسية في التحقيقات العلمية في جرائم القتل والانتحار في ضعف مهارات التحقيق والاعتماد على الاستنتاجات المتسرعة التي تتم صياغتها بشكل غير مهني وغير علمي من الطبيب الشرعي، بعد معاينة جثة الضحية مباشرة في مشرحة المستشفى. في كثير من الحالات، تبدو تقارير الأطباء الشرعيين متعارضة بشكل مباشر مع محتوى محضر الشرطة، ومع مسار الرصاصة، وكذلك مع بقية الأدلة في مسرح الجريمة.
على سبيل المثال، فإن علامات الجروح الدفاعية على يدي الضحية التي تم توثيقها وتصويرها من محققي الشرطة في تقريرهم في إحدى القضايا، قد أغفلها الطبيب الشرعي، وقد ذكر في تقريره أنه لم يلاحظ أي دليل على الاعتداء الجسدي / العنف على جسد الضحية، هذه العيوب على الأرجح تضلّل تحقيقات ضباط قوى الأمن الداخلي.
من جهة أخرى، غالباً ما يقدم الأطباء الشرعيون أثناء المحاكمات أدلة جنائية غير موثوقة وذات حدود علمية غير واضحة، وآراء حول الأدلة خارج مجال خبرتهم ما يؤدي إلى استنتاجات مضللة تصل إلى حدّ إساءة تطبيق العدالة.

انقر على الصورة لتكبيرها


رسالة الانتحار
في التحقيق في انتحار محتمل، يمكن لرسالة الانتحار أن تقدم عدة أدلة بشأن الدافع. هل هناك أسباب نفسية أو خارجية دفعت شخصًا ما إلى الانتحار؟ يمكن أن تشير طريقة كتابة الرسالة أيضًا إلى ما إذا كان المتوفى كتبها باختياره أم بالإكراه، والسؤال الأهم هل هو من قام بكتابة الرسالة فعلاً؟ هناك العديد من الأسئلة التي يجب أخذها في الاعتبار لتحديد ما إذا كانت الوفاة انتحارًا أو تم التخطيط لها لتظهر على هذا النحو.
إذا لم يتم ترك رسالة انتحار أو عدم كتابتها بخط اليد، غالبًا ما يتم رفع الأعلام الحمراء. هذا ليس سببًا قاطعًا للحكم على موت شخص كقتل وليس انتحارًا، ولكنه يثير تساؤلات.

مخلفات إطلاق النار... الدليل ظرفي!
في لبنان، يجري الاعتماد بشكل أساسي خلال التحقيقات الجنائية على نتائج «اختبار مخلفات إطلاق النار» على يدي المتوفى والمشتبه بهم. وجود مخلفات إطلاق النار على يدي الضحية مثلاً يعتبر دليلاُ موثوقاً انها أقدمت على الانتحار، علماً أن سبب وجود تلك الجزئيات يمكن ان يكون سببه قرب الضحية من السلاح الناري اثناء جريمة القتل المفبركة كالانتحار. كما يتم تبرئة مشتبه بهم من جرائم قتل بسبب عدم تواجد تلك الجزئيات على أيديهم، الامر الذي يضلل التحقيق، وقد عالجت «القوس» هذا الموضوع بشكل دقيق ومفصل في العدد الخامس.


اكتشاف جريمة بعد سنوات
منذ سنوات، تبلغت القوى الأمنية بوجود جثة رجل في العقد الرابع في إحدى المناطق. وبعد مسح مكان وجود الجثة وبدء التحقيقات، خلصت النتائج الى اعتبار الحادثة «انتحاراً».
بعد أكثر من عام على بدء التحقيقات، بدأت الشكوك تحوم حول عدم حدوث الانتحار نظراً لعوامل عدة. مع ذلك، لم تستطع القوى الأمنية تأكيد فرضيّة القتل المتعمّد خصوصاً مع ارتكابها العديد من الأخطاء خلال عمليّة المسح وأهمّها غياب الكشف الحسي المهني على مسرح الجريمة.
بعد التوسع في التحقيق بناء على إشارة النيابة العامة المختصة، أُجريت دراسة جنائيّة كاملة للحادثة استناداً إلى تطبيق تحليل البقع الدمويّة التي جرى الكشف عليها في الصور المأخوذة لمكان وجود الجثة آنذاك، إضافة الى إعادة تركيب مسرح الجريمة وتحديد العلاقة المتبادلة بين الأدلة الموجودة في مكان الحادثة. حينها، تبيّن علميّاً أنّ الضحيّة لم تمت في المكان الذي تم اكتشاف فيه الجثة، وإنّما نقلت من مكانٍ آخر. ونظراً لوجود مسرح جريمة ثانٍ (مكان وجود الجثة) تعذّر إيجاد مسرح الجريمة الاول (حيث تمت الجريمة) بسبب وقوع الجريمة منذ أكثر من عام.


«الكلور» في الأفلام فقط
في الأفلام التي تروي قصصاً عن جرائم، يقوم الجاني بتنظيف مسرح الجريمة باستخدام مبيّضات الكلور لإخفاء دماء الضحية. لكن هذا لا يحدث إلا في الأفلام!
صحيح أنّ هذه الأنواع من المبيضات تزيل البقع الدمويّة التي يمكن رؤيتها بالعين المُجرّدة، إلا أنّ الخبراء الجنائيين يستخدمون العديد من المواد مثل اللومينول أو الفينول فثالين لإثبات وجود الهيموغلوبين الموجود في خلايا الدم.
لذلك، بإمكان هذه المواد الكيمائيّة تأكيد وجود الدماء، حتّى لو غسل الجاني ملابسه الملطّخة بدماء الضحية مستخدماً الكلور عشرات المرات!
في المقابل، لا تعمد القوى الأمنية إلى استخدام هذه المواد الكيمائيّة في كثير من الأحيان. هذا ما حصل عندما تبلّغت القوى الأمنية منذ سنوات عن انتحار فتاة في منزل ذويها قبل نقلها إلى المستشفى حيث فارقت الحياة. مع وصول المحققين إلى المكان، تبيّن أن المكان خالٍ من الدماء علماً أن الفتاة نزفت كثيراً وهذا ما بدا واضحاً على ملابسها.
بعد أشهر من التحقيق، توصّلت القوى الأمنية إلى خلاصة أنّ الفتاة قد انتحرت. ولكن، بعد التوسّع في التحقيق وإعادة فتح الملف، تبين علمياً ان الأم قتلت ابنتها. ولكن كان يُمكن التوصّل إلى هذه النتيجة في أولى مراحل التحقيق لو تم استخدام اللومينول والفينول فثالين في مسرح الجريمة!