كل فترة تعود علامات الأزمة إلى الظهور. فبعد وقت مستقطع في فترة الانتخابات، استعاد الأطراف المعنيون بعمليات استيراد القمح والبنزين، وبتمويلها، لعبتهم المفضّلة: الدولارات مقابل عرض السلع في السوق. بالنسبة للمستهلك، هما سلعتان أساسيتان وأسعارهما مدعومة. الدعم، يتم عبر ثلاثة مصادر أساسية: الدولارات من مصرف لبنان بواسطة منصّة صيرفة، الدولارات من الحكومة التي تسحب من حقوق السحب الخاصة (SDR)، أو الدولارات التي يقترضها لبنان من الخارج مثل قرض البنك الدولي المخصص للأمن الغذائي. والأسعار مدعومة على الشكل الآتي: يموّل مصرف لبنان الدولارات للبنزين بنسبة 85% من الكميات عبر منصّة صيرفة، بينما يؤمن التجّار الـ15% الباقية من السوق بالسعر الحرّ. وتؤمن الحكومة الدولارات لاستيراد القمح من حقوق السحب الخاصة ومن القروض بينما يدفع المستوردون السعر بالليرة على سعر صرف يبلغ 1517 ليرة. بذلك، يبقى قسم من أسعار السلع قابل للتذبذب تزامناً مع تقلبات سعر الدولار في السوق الحرّة: الـ15% من سعر البنزين، إضافة إلى مواد أولية تستخدم في صناعة الخبز مثل الخميرة والنايلون والسكر والمازوت لتشغيل الفرن...إذاً، ما أهداف كل طرف؟ مصرف لبنان لديه هدف واضح: الوصول إلى نهاية للدعم، أي نهاية لتمويل استيراد السلع بدولارات يؤمّنها هو. هو يريد أن يكون تأمين الدولارات على عاتق التجّار والمستوردين من السوق الحرّة، وأن يتم تحريره من هذا العبء. وما تدلّ عليه تجربة مصرف لبنان السابقة مع الدعم، أنه لا يوجّه طلباً مباشراً لرفع الدعم، بل يقوم بذلك من خلال التقنين التدريجي في ضخّ التمويل، ورفع الأسعار بالليرة اللبنانية، أي من خلال انقطاع في السلع وفرض ضريبة عليها. هذا ما فعله مع المازوت بشكل كامل، إلا أنه أبقى الدعم الجزئي على البنزين والدواء والخبز وبعض الخدمات مثل الإنترنت وسواها. وعلى مدى أشهر من تقنين السلع ورفع أسعارها، ابتلع الناس الطعم، وصاروا يردّدون مقولة: توافر السلعة أولى من دعمها. وهكذا حصل، إلا أن الهدف اليوم هو التحرير الكامل للسلع المدعومة جزئياً مثل البنزين والقمح، أو على الأقل رفع عبء الدعم عن مصرف لبنان.
لكن لكل سلعة خصوصية مختلفة عن الأخرى. فالبنزين تسعّره وزارة الطاقة في إطار معادلة تتضمن إصدار تسعيرة استثنائية بحسب التقلّبات والتذبذبات في سعر الدولار أو في الأسعار العالمية للسلعة. أما بالنسبة للقمح فإن الدعم هو الفرق بين سعر الـ1507.5 ليرات الذي يدفعه أصحاب المطاحن وبين السعر الفعلي للدولار، والدولة تموّل هذه الفروقات في السعر عبر حقوق السحب الخاصة التي بدت تظهر كأنها مال سائب.
في إطار هذه الأهداف، ما حصل هو أنه يتم إظهار صعوبة الحلول لأزمة تقنين البنزين. عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات جورج البراكس يؤكد أنه «لا أزمة محروقات في لبنان، والبنزين متوافر في مستودعات الشركات وفي بواخر راسية في البحر. لكن الموضوع متعلّق ببعض التأخير في إنجاز معاملات صرف الدولار للشركات المستوردة من قبل المصارف وفقاً لمنصة صيرفة ويجب أن يحل الموضوع سريعاً». وأصل المشكلة بحسب رئيس تجميع الشركات المستوردة للنفط مارون شماس يكمن في أن «المصارف لا تحول كامل المبلغ الذي نسلمها إياه من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي، بالتالي هنالك تراكمات يومية بالليرة اللبنانية. كافة الشركات المستوردة للنفط لا تحتاج إلى أكثر من 10 ملايين دولار يومياً، لكن المصارف لا تسلمنا أكثر من 20% إلى 30% من هذا المبلغ، بالتالي تقلّص قدرتنا على التحمّل وتغطية الفرق من جيبتنا». لكن ليس النقص هو المشكلة الوحيدة، فعندما تتوافر الدولارات، لا تنفذ المصارف العمليات بالسرعة اللازمة «هذه مشكلة تفاقمت بسبب إضراب المصارف ليومين أواخر شهر آذار، ثم الإقفال الذي رافق العطل في عيد الفصح وعيد الفطر. ما راكم بشكل كبير من الليرات التي بحوزتنا». وفي هذا الإطار يتحصن شماس بكتاب أرسله إلى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في 12 أيار المنصرم يعرض فيه المعوقات التي تواجهها الشركات المستوردة للنفط، طالباً منه التدخل لدى حاكم مصرف لبنان «للتأكد والتنسيق مع المصارف للالتزام بإعطاء أولوية منصة صيرفة لشركات النفط» على ما ورد في الكتاب.
مصرف لبنان يسعى إلى رفع الدعم كلياً من خلال التقنين التدريجي في ضخّ التمويل ورفع الأسعار بالليرة


إزاء هذا الوضع، يصبح سلوك المعنيين محكوماً باستخدام الشارع ضدّ الآخرين. عندها تصبح الأولوية لتقاذف المسؤوليات لا لمعالجة المشكلة. طبعاً ضمن الهدف نفسه، أي نحو رفع الدعم. فوفقاً لكتاب الشمّاس الموجّه لرئيس الحكومة، فإن «المصارف تقول بأن مصرف لبنان لم يؤمّن المبالغ المطلوبة بالدولار الأميركي. أما وزير الطاقة فيقول بأن مصرف لبنان أبلغه بأنه يؤمن المبالغ المطلوبة من الدولار الأميركي للمصارف». يتّهم الشمّاس المصارف: «لا نعرف لمن يسلّمون الدولارات أولاً. ولذلك طلبنا أن يتدخل مصرف لبنان للمراقبة في كيفية توزيع الدولارات. فالأولوية يجيب أن تكون للبنزين، كونه سلعة تتحكم الدولة بسعرها عبر جدول الأسعار».
وبما أن سعر الدولار ارتفع، فإن نسبة الـ15% من دولارات الكلفة التي يؤمنها التجّار من السوق الحرّة، أصبحت أكبر عند التسعير بالليرة. لذا، فإن الضغط الذي يمارسه التجار، أو يتقاذفه مع مصرف لبنان، لا ينحصر بالتمويل، بل يشمل وزارة الطاقة أيضاً التي تصدر جدول تركيب الأسعار. فالشركات تتوقع أن يصدر وزير الطاقة جدولاً جديداً للأسعار يغطي ارتفاع سعر الدولار في ما يتعلق بنسبة الـ15%.
وبالنسبة للقمح، القصّة أيضاً متكرّرة. مخزون متوافر لدى عدد من المطاحن، بينما هناك عدد آخر ليس لديه مخزون لأن التمويل لا يكفي لتمويل ثمن كل الشحنات لكل التجّار. بالتالي يتطلّب الأمر قراراً من مجلس الوزراء من أجل تمويل الشحنات وتغطيتها من حقوق السحب الخاصة.



محاولة يائسة للإمساك بالدولار
في محاولة يائسة للإمساك بسعر الدولار، قرّر أمس، المجلس المركزي لمصرف لبنان، تمديد مفاعيل التعميم 161 لغاية نهاية شهر تموز 2022 على أن يبقى حجم العمليات مفتوحاً بلا سقف محدّد. لكن السوق لم تتعامل مع هذه المحاولة باعتبارها أمراً واقعاً وجديّاً، إذ إن المصارف والصرافين لم يحصلوا على «كوتا» الدولارات التي كان يفترض أن يحصلوا عليها أمس من مصرف لبنان، ما أبقى سعر الدولار ضمن حدود الـ30 ألف ليرة. وبحسب مصادر مطلعة، فإن فكرة التمديد لمدّة شهرين هدفها تهدئة الطلب السوقي على الدولار في إطار محاولة إقناع المضاربين بأن مصرف لبنان ما زال يمسك بالسوق وقادر على التحكّم بالسعر، إلا أن هذه المحاولة لن تنجح إلا في حال قرّر مصرف لبنان معاودة ضخّ الدولارات للمصارف عبر صيرفة على نطاق واسع، وهو أمر يفترض أن يحسم اليوم لجهة ضخّ كل الكمية المطلوبة في السوق أو تقنينها على أيام أو حتى الإحجام عن تسديدها بالمطلق.
وبحسب الخبير الاقتصادي محمود جباعي، فإن تمديد التعميم «هو مجرّد كلام» إذ إن «الفكرة ليست في المدّة الزمنية، وإنما بآلية التنفيذ. فمنذ شهرين قلّص مصرف لبنان كمية ضخّ الدولارات في السوق، بالتالي فإذا مدّد العمل بالتعميم من دون ضخّ الدولارات، لن يكون بإمكانه السيطرة على الدولار. هكذا هرول الناس لشراء الدولار وهو ما ساهم بارتفاعه حتى اجتاز عتبة 31 ألف ليرة وسيؤدي إلى مزيد من التضخم».


دولة لكلّ مواطن
يعبّر رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو عن وجهة نظر قاتمة للقادم من الأيام فـ«الدولة لم تعد موجودة، الانهيار الاقتصادي يستكمل مجراه». كلّ مواطن مقتدر بات يقيم دولته الخاصة، فيؤمن الكهرباء بشكل ذاتي والمياه بشكل ذاتي وحتى أمنه بشكل ذاتي...أما من لم يملك الوسيلة لذلك فسيعود إلى العصر الحجري، في حين ينحصر همّ الدولة اليوم «في دفع بدل نقل للموظف الذي لا يذهب إلى عمله. فلنسأل، من أصل 370 ألف موظف كم عدد الذين يداومون في وظائفهم؟».
لا يعوّل برو على نتائج الانتخابات «التي لم تحاسب الطبقة السياسية بل جدّدت لها»، أما بعض التغيير الذي حدث فلا يغيّر من الواقع بل باتت «الحال اليوم أقرب إلى الفوضى وعدم الاستقرار». مشيراً إلى أن الخطابات الانتخابية «انشغلت بالعناوين الكبرى فيما لم يطرح أحد برنامجاً لحلّ القضايا التي تمسّ أمن الناس وحياتهم وعلى رأسها استرجاع أموال المودعين وطرد حاكم مصرف لبنان وطرح سياسات بديلة للسياسات القائمة كدعم القطاعات المنتجة بدلاً من دعم التجار».