قبل بضع سنوات، سكن عدد من الشابات والشبان البنغاليين منزلاً في «حي المستشفى» في بلدة الجيّة الشوفية. «بيت البنغلادشيّة»، هكذا بات اسمه في الحي، من دون أن يكون لدى أيّ جار من جيرانه القدرة على أن يتكهّن بظروف هذا البيت ما لم يزره.
والزيارة أشبه بالمغامرة، تبدأ بنزول درج طويل للوصول إلى «تحت الأرض». العتمة حالكة في الزوايا غير المضاءة، ورائحة الرطوبة منبعثة من الجدران في غياب النوافذ والتهوئة، والغرف صغيرة كعلب السردين بعضُها متلاصقٌ ببعض، كل الدلائل تشير إلى أن سكان المنزل يعيشون في «قبر» بالمعنى الحرفي.
في الغرفة التي لا تتعدّى مساحتها 3 أمتار مربّعة، يوضّب كلّ منهم أشياءه، ويطبخ ويأكل ويسهر وينام. هنا، لا براد ولا راديو ولا تلفزيون ولا تدفئة. وحدها الهواتف الخلوية متنفّس البنغاليين. «الدعاية» المنشورة في الحي لوقت طويل بأن «البنغلادشيين بيطلعوا مصاري بالهبل» تجعلنا نسأل ما إن كان هذا الأمر صحيحاً فعلاً وما الذي يجعل هؤلاء الشبان يصبرون على الحياة في هذا الجحيم، ولماذا لا ينتقلون للعيش في مكان آخر تتوافر فيه أبسط مظاهر الحياة الكريمة؟
14 سنة مضت على وجود «روني» في لبنان لم يزر خلالها بلاده أبداً، وصرف معظمها في مختلف أنواع الأعمال لتحقيق هدف واحد: تحويل الأموال إلى أسرته. لم يكترث العامل البنغالي يوماً بتحسين نوعية حياته هنا «إذ كنت سعيداً بإرسال معظم ما أجنيه (400 دولار) إلى بنغلادش ولا أنكر أن المبلغ كان كافياً في حينه». لكنّ الأحوال تبدلت في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ يجزم بأنه لم يرسل قرشاً واحداً إلى أهله منذ عام 2019. «ما في شغل، ما في دولار، ما في أمم (مفوضية الأمم المتحدة للاجئين)»، يقول مشيراً إلى أنه تحول إلى بائع خردة لا تتجاوز «يوميته» 70 ألف ليرة (دولاران ونصف دولار). تدمع عينا روني حين يروي كيف ذهب تعب السنين سدى، حتى وصل به الأمر إلى حرمان نفسه من وجبة الأكل «إذا بتروّق ما بتغدى وإذا بتغدى ما بتعشى» كي يؤمن مساهمته في رسم اشتراك الكهرباء (275 ألف ليرة) وإيجار البيت (500 ألف ليرة)، بعدما كان الإيجار 50 دولاراً أميركياً، أي 75 ألف ليرة ليرة وفق سعر الصرف القديم. يؤلمه أن لا تتفهم أسرته الموقف الصعب الذي يمرّ به، «أهلي لا يصدقون بأنني لا أستطيع أن أحوّل إليهم أموالاً، ويتهمونني بالكذب». اليوم، بات روني يعدّ الدقائق للعودة إلى بلاده «التي مهما قست ظروفها لن تكون أقسى من الجحيم الذي أعيشه هنا». لكن هذا الحلم، كما يسميه، يحتاج إلى 600 دولار أميركي ليدفعها للسفارة البنغالية بهدف تسوية وضعه غير القانوني وترحيله.
لا يصدّق الأهل في بنغلادش بأنّ العمال غير قادرين على تحويل أموال


في أثناء الحديث مع «روني» تحضر سكينة، العاملة المنزلية، من الخارج وتبادر إلى القول: «ضهرنا شوي لبرا لنتنفس ونشمّ هوا نظيف». انتقلت سكينة قبل سنتين للعيش في البيت نفسه، عندما تزوجت من إبراهيم، بائع الخردة أيضاً. وكان على كلّ من الزوجين تحويل الأموال إلى أسرة كلّ منهما، فالزوج لديه هناك زوجة ثانية وأربعة أبناء، والزوجة لديها أم عجوز وابنة عمرها عشر سنوات. منذ نحو شهرين، قرّرت سكينة الذهاب إلى بنغلادش إلى غير رجعة، بعدما ضاقت بها سبل الحياة «إذ استغنت الكثير من ربات البيوت بسبب كورونا والظروف الاقتصادية عن الاستعانة بعاملات منزليات» كما تقول، «وبعدما كنت أعمل 6 أيام في الأسبوع من الصباح حتى المساء، وإن بأجرة قليلة لا تتجاوز 6 آلاف ليرة للساعة الواحدة، باتت أيام العمل لا تتجاوز يومين أو ثلاثة مقابل 50 ألف ليرة للساعة الواحدة». لكنّ سكينة عادت أدراجها، بعدما اكتشفت أن بنغلادش ليست أفضل حالاً من لبنان، إن لجهة عدم توفر فرص للعمل أو لجهة كلفة المعيشة المرتفعة أيضاً، فيما «أمي وابنتي أمانة برقبتي وليس هناك من يصرف عليهما».
يدفع كل من سكينة وإبراهيم أيضاً 500 ألف ليرة مقابل إيجار البيت و275 ألفاً للاشتراك. إبراهيم أشار إلى أنه يسكن البيت منذ 7 سنوات «كنا كثراً، نحو 11 شخصاً نتشارك الغرف وأصبحنا اليوم خمسة فقط مع آكي، العاملة المنزلية، وسهيل الذي تحوّل من عامل صيانة في المستشفى القريب يتقاضى راتباً شهرياً، إلى عامل نظافة «عالقطعة»، إذ يحدث أن لا يضرب ضربة واحدة في الأسبوع».
هي واحدة من حكايات الانهيار لعمّال تركوا جحيم بلادهم ليدخلوا جحيماً آخر لا يقلّ قتامة.