كان لافتاً أن يكون عنوان البند الرابع من تقرير أوليفييه دي شوتر بشأن زيارته للبنان في تشرين الثاني الماضي: «الفقر في لبنان: ظاهرة من صنع الإنسان». والتقرير لا يكتفي بالإشارة إلى الأحداث والنتائج، بل يحدّد من صنعها ومن اغتنى من هذه العمليات ومن يجب محاسبته.تحت هذا البند، يعيد التقرير رسم الأحداث بطريقة واضحة جداً. برأيه «كان يمكن تجنّب انهيار الاقتصاد»، إذ كانت هناك تحذيرات من الخبراء الاقتصاديين والماليين منذ عام 2015، لكن ما حصل هو أن «القيادة السياسية تجاهلت عمداً هذه التحذيرات».

(مروان بوحيدر)

وأوليفييه لا يكتفي بهذا الاتهام، بل يذهب أبعد نحو تحميل المسؤولية، مشيراً إلى أن «الحكومة والمؤسسة السياسية الأوسع نطاقاً، ومصرف لبنان والقطاع المصرفي، يتحملون المسؤولية بصورة مشتركة وبصورة فردية، عن انتهاكات حقوق الإنسان التي نتجت من الأزمة المفتعلة التي يعيشها لبنان اليوم».
ويلفت التقرير إلى ثلاثة قرارات اتّخذها مصرف لبنان، أسهمت في خفض قيمة العملة اللبنانية وأدّت إلى إفقار للسكان:
ــــ أولاً، يشكّل انعدام الشفافية في مصرف لبنان عقبة تحول دون مساءلة الدولة. فالمصرف لا يبلّغ بوضوح عن خسائره في ميزانياته العمومية كل أسبوعين. إذ تبيّن لمراجعي حسابات المصرف في عام 2018 أن سياساته المحاسبية «تختلف عن المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية». وفي كانون الأول 2015، أظهرت وثائق سرية لصندوق النقد الدولي احتياطات صافية سلبية لم يكشف عنها بلغت 4.7 مليارات دولار. كما أن مصرف لبنان لم ينشر بيانات الأرباح والخسائر منذ عام 2002، ويعتمد على إيرادات مستقبلية بالعملة الأجنبية تتجاوز بكثير حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهي ممارسة طالما انتقدها صندوق النقد الدولي. وممارسات مصرف لبنان المبهمة في إعداد التقارير وعدم الإقرار بالخسائر التي تقدّر بأكثر من 50 مليار دولار في الوقت الراهن، تمنع تدقيق العموم لاستخدامه الثروة الوطنية.

بالأرقام

80%
من أطفال لبنان أو 1.8 مليون طفل يعانون من فقر متعدّد الأبعاد
77%
من الأسر تفتقر إلى ما يكفي من المال لشراء الأغذية
60%
من الأسر تشتري الأغذية بواسطة الائتمان أو بواسطة الاقتراض
400.000
طفل محرومون من المدرسة في 2020
80%
من الأشخاص ذوي الإعاقة لا يعملون أو لم يعملوا قطّ
63%
من شريحة الـ 10% الأشدّ فقراً يفتقرون مقارنة بنحو 6.5% فقط من الأفراد في فئة الـ 10% الأكثر ثراءً


والحيل المحاسبية في ما يتعلق بخسائره، تعني أنه خلق سرّاً، ديناً عاماً ضخماً خارج إطار عملية شفافية لاعتمادات الميزانية، ما سيثقل كاهل اللبنانيين لأجيال. وما يثير القلق أنه في الوقت الذي تدقق فيه اللجان والجلسات النيابية عادة في عمل المصارف المركزية المستقلة، لم تسائل لجنة المال والموازنة في مجلس النواب اللبناني قط قيادة مصرف لبنان بشأن ممارساته الشاذّة في الإبلاغ، ولذلك يجب أن تشمل الخطوة الأولى نحو الإنعاش الإقرار بالخسائر ومراجعة حسابات مصرف لبنان. ينبغي أن تضع الحكومة حداً لقانون السرية المصرفية الضارّ الذي يحول دون المساءلة الحقيقية في القطاع المالي.
ــــ ثانياً، من أجل اجتذاب الدولارات وبالتالي الحفاظ على سعر صرف ثابت، عرض مصرف لبنان أسعار فائدة مرتفعة بشكل غير متناسب على المصارف التجارية والمودعين الأثرياء. وقد اعتبر صندوق النقد الدولي، أسعار الفائدة هذه أعلى من السوق في عام 2016، وأنها تمثّل أرباحاً غير متوقّعة للمستفيدين بما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي حين يمكن القول إن هذه العملية عزّزت احتياطات رأس المال لدى المصارف، إلا أنها أضعفت الاستقرار المالي للقطاع المصرفي بالتسبّب في خسائر كبيرة في الميزانية العمومية لمصرف لبنان، ما أدّى في نهاية المطاف إلى انهيار العملة وتدمير ثروة المودعين. وبمجرد إقرار الخسائر، يجب على الحكومة أن تضمن تحملها من قبل المساهمين والمودعين الأثرياء الذين استفادوا من أسعار الفائدة المرتفعة وليس من قبل 1.2 مليون حساب لصغار المودعين الذين تقلّ ودائعهم عما يعادل 75 ألف دولار، ولا من قبل عامة الناس من خلال التضخم كما هو الأمر حالياً.
ــــ ثالثاً: يمثّل الحفاظ على أسعار صرف متعدّدة حالياً عقبة أمام المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومن المعروف أنه يؤدي إلى الفساد. وعندما يبيع مصرف لبنان دولار الولايات المتحدة، وهو أصل عام محدود في لبنان، بمعدل أقل من سعر السوق الموازية، يمكن للصرافين تحقيق أرباح صافية عن طريق شراء العملة وبيعها، بينما تتضاءل الاحتياطات الأجنبية لمصرف لبنان. كما يستفيد من أسعار الصرف المتعدّدة، المستوردون الذين يمكنهم بيع السلع المدعومة بأسعار غير مدعومة. ويستخدم مصرف لبنان الأموال العامة لتستفيد منها هذه الجهات الفاعلة بشكل مباشر على حساب بقية السكان.

أسهمت السياسات النقدية في تدهور العملة وتدمير الاقتصاد وتبديد مدّخرات الناس مدى الحياة


وقد أسهمت هذه السياسات في تدهور العملة وتدمير الاقتصاد وتبديد مدّخرات الناس مدى الحياة، وأسهمت في نهاية المطاف في الزجّ بالسكان في دوامة الفقر. ومع تطوّر الأزمة، هرع الأفراد النافذون الذين كانوا على علم بالكارثة الوشيكة إلى نقل رؤوس أموالهم إلى خارج لبنان، وسهّل عملهم الفراغ القانوني في مراقبة رؤوس الأموال.
ورغم الاختلال الواضح للثروة الوطنية، لم يُجرَ أيّ تقييم على الإطلاق لأثر قرارات مصرف لبنان المتعلقة بأسعار الفائدة وأسعار الصرف على مختلف فئات المجتمع، وهو شرط مسبق رئيسي لضمان امتثال السياسات النقدية لحقوق الإنسان الدولية. وفي الوقت الذي تحترم فيه الحكومة استقلال مصرف لبنان، يجب عليها أن تكفل في تعريف ولاية مصرف لبنان ألّا تؤدي السياسات النقدية إلى انتهاك التزاماتها في مجال حقوق الإنسان.



استعراض أمام الدائنين
قدّم أمس، نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، ووزير المال يوسف الخليل، عرضاً لدائني الدولة، يظهر توقعاتهم وافتراضاتهم للمؤشرات الاقتصاديّة مستقبلاً بعد سريان برنامج التمويل مع صندوق النقد الدولي. وتشير التوقعات إلى بقاء معدّل النمو الاقتصادي سلبياً في عام 2022 (-2.5%)، على أن يصبح إيجابياً مع بداية برنامج صندوق النقد عام 2023 (2.2%)، وأن يبلغ 3.1% في عام 2026. وبحسب الشامي، تعتمد الحكومة في افتراضها أن النموّ سيتحقّق من خلال الاعتماد على «اقتصاد المعرفة» ومن خلال «استغلال الخبرات والطاقات اللبنانية الموجودة في الداخل والخارج». كما تشير التوقعات إلى بقاء معدلات التضخّم مرتفعة، حتى في أوّل عام من برنامج صندوق النقد (42%)، على أن تنخفض تدريجاً لتبلغ 5% في عام 2026. أما بالنسبة إلى العجز في الحساب الجاري نسبة إلى الناتج المحلّي، فتتوقع الحكومة انخفاضه تدريجاً من 14% في 2021 إلى 6% في 2026، وهذا مبنيّ على افتراض زيادة الصادرات.


تفكيك مؤسسة الكهرباء من أجل «الشراكة»
أعرب المقرّر الخاص لمجلس حقوق الإنسان أولييفيه دي شوتر، عن قلقه من أن تؤدي الشراكة مع القطاع الخاص في قطاع الكهرباء إلى زيادة «تسعيرات تجارية أعلى مما لو كان مرفق التوزيع مملوكاً من القطاع العام»، لافتاً إلى أن «الهدف من الشراكة زيادة الأرباح إلى أقصى حدّ، بدلاً من تقديم الخدمات الأساسية». ولمّح إلى أن الشراكة تُفرَض بالاحتيال، مشيراً إلى أن «تفكيك مؤسّسة كهرباء لبنان سيؤدي إلى تقسيم القطاع وفتحه أمام مشاركة القطاع الخاص، ما يسمح في نهاية المطاف بنقله إلى القطاع الخاص بالكامل».