للعمالة الأجنبية في لبنان تاريخ يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، لكن الاعتماد بشكلٍ أساسي على اليد العاملة الوافدة لم يحصل إلّا في أوائل السبعينيات مع بداية عصر البترودولار، ودخول أموال النفط الخليجي إلى لبنان على شكل ودائع في المصارف اللبنانية. آنذاك وُلد نمط قوامه تصدير اليد العاملة اللبنانية الباحثة عن مردودٍ مادي يحسّن مستوى معيشتها، وعزّزته الحرب الأهلية المندلعة في حينها، مقابل اعتماد الاقتصاد اللبناني على يدٍ عاملة رخيصة وافدة من بلدان ذات مستوى معيشي أدنى كسوريا ودول شبه القارة الهندية. تمأسس هذا النمط في الثمانينيات والتسعينيات وبقي ساري المفعول إلى ما قبل الانهيار المالي عام 2019. النظام الاقتصادي اللبناني ومستويات الدخل الناتجة عن النفخ المالي رفعت كلفة معيشة اللبناني ودفعته نحو الهجرة بحثاً عن مردودٍ يكفيه، في حين أنّ المردود المحلي سيكون كافياً لعاملٍ سوري أو من بلدان شبه القارة الهندية يعيش بمفرده في لبنان، وسيرسل معظم أجره إلى عائلته في دولٍ ذات مستوى معيشي أدنى. على مدى كلّ هذه السنوات، عجزت السلطة عن تطوير البنية الاقتصادية وخلق وظائف تمنع هجرة اللبناني. على العكس خفّضت الاستثمار والإنتاجية في ظل توفر اليد العاملة الأجنبية الرخيصة نسبة للأسعار.

العمالة الفلسطينية
في السبعينيات، شهد الخليج قفزة هائلة في المجال الاقتصادي منتقلاً، حكوماتٍ وشعوباً، من مرحلة بداوة إلى مرحلة نهوض استدعت استقدام يد عاملة عادية وفنيّة من دولٍ ككوريا الجنوبية وشبه القارة الهندية القريبة جغرافياً لبناء المعامل والمصانع عن طريق شبكاتٍ تنظّمت لتأمين هذه العمالة. هذا الأمر انعكس بشكلٍ تصاعدي بداية الحرب في لبنان من خلال الاعتماد على الشبكات عينها لاستقدام أيادٍ عاملة بأعداد كبيرة. تعتبر تلك الحقبة مفصلية في تاريخ العمالة الأجنبية في لبنان، والتي بدأت مع نكبة عام 1948 وتهجير الفلسطينيين ولجوئهم إلى لبنان. وعلى اعتبار أن وجود الفلسطينيين ظرفي أبدت منظمة «الأونروا» حديثة الولادة آنذاك، رغبتها بعدم تحوّل اللاجئين إلى منافسين للبنانيين في أعمالهم، فكان التوجّه نحو السماح بالعمل في مجالاتٍ لها طابع استثماري ظرفي كأعمال البنى التحتية والتشجير.
محلياً كان التوسّع يطال الصناعة بحجّة مفاعيل الحرب العالمية الثانية، وكذلك زراعة الليمون في السهول الساحلية. ملاّكو الأراضي الزراعية وأصحاب المصانع اغتنموا الفرصة، واستعانوا بقاطني مخيّمَي صور وصيدا في زراعة الليمون، خاصة وأنّ زراعته كانت قد بدأت في فلسطين قبل لبنان، أما أهالي مخيّم كرم الزيتون فتحوّلوا إلى أيدٍ عاملة صناعية. فرضت الحاجة الاقتصادية مدعومة بموجات اللجوء الفلسطيني أن يشكّل هؤلاء اليد العاملة الأجنبية الأولى في لبنان بعد انتهاء مرحلة الانتداب الفرنسي. ولم يكن الفلسطيني هو المقصود بالقوانين الصادرة في تلك الحقبة، والتي تحظّر عمالة الأجنبي في مهنٍ منظّمة، إنما مهندسون وأطباء وسواهم من الجنسيات البريطانية والفرنسية والإيطالية، الذين لم يغادروا لبنان مع انتهاء الانتداب الفرنسي. إذ لم يكن وارداً في أذهان أحد أن يعمل الفلسطيني بهذه المهن، لا في ذهن المشرّعين، ولا في ذهن أرباب العمل لما قد يترتّب عليهم من حقوق للعامل، ولا حتى في ذهن الفلسطيني نفسه الذي كان ينتظر عودته إلى بلده. وحتى عام 2012 كان عدد الفلسطينيين الحائزين على إجازة عمل بضع مئات.

العمالة المنزلية: سودانية أولاً
في بداية الستينيات كان العمل المنزلي قد بدأ من خلال استعانة البرجوازية المدنية، وإن على نطاقٍ ضيّق جداً، ببنات العائلات اللبنانية الريفية الفقيرة ضمن علاقة أبوية إلى أبعد الحدود، وتعتيم كامل من قبل العائلات خوفاً من الوصمة الاجتماعية التي يحدثها بنظرهم هذا النوع من الأعمال «المهينة». بقي العمل المنزلي على هذا الشكل حتى الثمانينيات وبداية التسعينيات، حيث شهد لبنان قدوم العاملات الأجنبيات من بلادٍ كسريلانكا والفلبين ومن ثم بنغلادش عبر شبكاتٍ تولّت المهمة في الخليج ولبنان.
في بداية التسعينيات شهد لبنان قدوم العاملات المنزليات الأجنبيات


كما ظهر في أواخر الستينيات في لبنان ما عُرف بالـ«Barbarin»، وهم سودانيون عملوا في الخدمة المنزلية في مصر، واستقدمتهم العائلات اللبنانية العائدة إلى لبنان معها، بعد قرار التأميم الشهير الذي اتخذّه الرئيس المصري جمال عبد الناصر آنذاك. جزء من هؤلاء شكّلوا ظاهرة ضيّقة في وسط بيروت المسماة حينها بساحة البرج، وأخذوا يبيعون الفستق الذي أصبح يعرف لاحقاً بـ«الفستق السوداني». في الحقبة تلك، بدأ أهالي القرى الجبلية يستعينون بأبناء الأرياف الأكثر بُعداً كوادي خالد لقطاف موسم التفاح. لم يدم ذلك طويلاً، إذ انتهى مع قدوم العمالة السورية الموسمية للأفراد دون عائلاتهم، والتي نشأت لغايتَين محددتَين: العمل في البناء (عتالة وليس يد عاملة فنيّة) والمواسم الزراعية. كان ذلك بعد انفصال العملة بين لبنان وسوريا بسنوات عديدة بات خلالها هامش فرق العملة بين البلدين كبيراً، فضلاً عن أنّ النزوح الداخلي من الأرياف إلى المدن في لبنان سبق مثيله في سوريا بما يقارب الـ50 عاماً.

العمالة المصرية
دخلت العمالة المصرية سوق العمل اللبناني وبقوة بعد اتفاق استثنائي بين البلدين رعاه رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، يعفي بموجبه العمال المصريين من رسوم التسجيل. وبما أنّ العمل الزراعي غير مشمول بقانون العمل وتالياً لا يكبّد أصحاب العمل اللبنانيين رسوماً للضمان الاجتماعي والتزامات تجاه العامل، احتال هؤلاء على القانون واستقدموا المصريين تحت عنوان عمّال زراعيين ليعمل غالبيتهم لاحقاً في محطات الوقود. هكذا اعتمد لبنان على العمالة الأجنبية في مجالاتٍ عديدة، بالتزامن مع الهجرة اللبنانية التي لم تتوقّف يوماً، فضلاً عن أن أعمال كالتنظيفات وفي محطات الوقود لا عمالة لبنانية نهائياً فيها ولا منافسة نتيجة التنميط الحاصل بعد الاعتياد على أن أيادٍ عاملة من جنسيات أجنبية تعمل في تلك المهن.

الحرب السوريّة
استمر هذا النمط حتى اندلاع الحرب السوريّة عام 2011، والتي شكلت منعطفاً جديداً ومختلفاً. إذ تغيّر شكل العمالة السورية الوافدة إلى لبنان. من كان قد أتى في السابق بمفرده، عاد واصطحب عائلته هرباً من الحرب وتحوّلت إقامته إلى شبه دائمة في البلد، عكس ما كان يحصل مع العمالة السورية الموسمية. وللمرة الأولى شهد لبنان يداً عاملة سورية من مستوى تعليمي مختلف وتخصصات شتى، لكن سرعان ما غادر معظمها إلى دول الخليج وأوروبا وتركيا، وإن كانت عددياً أقل بكثير من القادمين من الأرياف السورية. سريعاً تم التكييف مع الأوضاع المستجدة، وتوسّع نطاق عمل السوريين على القطاعات. قطن جزء لا يستهان به منهم في القرى اللبنانية. عملوا في حراسة المنازل ومواسم الزرع وورش البناء وغيرها من المهن. ومنهم من يستفيد من مساعدات الأمم المتحدة العينية والمالية على قلّتها، إلى جانب أجورهم الأدنى من أجور اللبنانيين.

الانهيار المالي
ثمان سنوات لم يطرأ خلالها أي تغييرٍ إلى أن وقع الانهيار المالي والنقدي عام 2019، فكانت العودة الطوعية لأعدادٍ كبيرة من العمال الأجانب، وسط فقدان قدرتهم على الاستمرار بتحويل أجورهم بالليرة اللبنانية إلى الدولار وإرسالها إلى عائلاتهم بفعل التدهور الكبير في قيمة الليرة. قلّة بقيت في لبنان من عاملات منزليات أو سواهن يعملن لصالح عائلاتٍ غير مأزومة اقتصادياً ومحدودة عددياً نسبة عمّا كان سائداً قبل الانهيار. وحده العامل السوري فضّل البقاء في لبنان وإن برفقة عائلته، مرتكزاً على مساعدة الأمم المتحدة الشهرية بالدولار الأميركي للنازحين والتي باتت لها قيمة نسبية مقابل الليرة اللبنانية المنهارة، إلى جانب ما يتقاضاه من أجرٍ زهيد بالليرة. هرباً من جحيم الأزمة ومعدلات البطالة الآخذة بالارتفاع السريع، شكّلت الهجرة خشبة الخلاص. رحل من استطاع وآخرون ينتظرون. لكن قلّة تمكّنت بعد ثلاث سنوات من عمر الأزمة من كسر النمطية حيال مهنٍ لطالما اعتبرها اللبناني معيبة في وطنه، مفضلاً البحث عن فرصٍ أكبر ومردودٍ مالي واستقرار اجتماعي ونفسي في الخارج.