‎تستحوذ مجموعة عائلات على ما يصطلح تسميته بـ»تجارة الموت» في الشمال. غالباً كانت تلك العائلات تمتهن الصيد، ومع بدء الحرب في سوريا ونزوح آلاف السوريين إلى لبنان وازدهار مهنة التهريب، استبدل كثيرون كارهم وتحوّلوا إلى تجارة التهريب مُهرّبين فخلقوا سوقاً وبورصة أسعار تتبدّل وتتغير دورياً باختلاف الظروف ونسبة المخاطر المحدقة بكلّ عملية، سواء كانت أمنية أو مناخية. وبحسب متابعين للملف، كانت تكلفة الرحلة في البدايات تُراوح ما بين 800 إلى 1000 دولار أميركي للشخص، قبل أن تتطوّر خلال الأعوام اللاحقة وتبلغ بين 1000 إلى 1500 دولار بين عامي 2018 و2019. ومع دخول لبنان في أزمته الاقتصادية، اتجهت الأسعار صعوداً لتُراوح في عام 2022 ما بين 3500 إلى 4000 دولار أميركي مهما بلغ عمر الراكب. ويتوقع متابعون أن تشهد الأسعار مزيداً من الارتفاع، خاصة في ظلّ اتساع رقعة الحملات الأمنية على المهرّبين من جهة، وزيادة الطلب على الهجرة غير الشرعية من جهة ثانية، سيّما من أبناء الشمال ومن السوريين، وهذا يرتّب استغلالاً واضحاً من قبل المهرّب، إلى جانب استقطاب هذه المهنة أشخاصاً جدداً ما يُهدّد بتوسّعها.
‎78 عملية تهريب
منذ عام 2019 ولغاية الشهر الرابع من عام 2022 أحصي حصول ما يقارب 78 عملية تهريب غير شرعية لمواطنين لبنانيين ونازحين سوريين ولاجئين فلسطينيين عبر البحر انطلاقاً من الشمال. وتفيد معلومات أمنية بأن هدف غالبية الرحلات كان الوصول إلى الشواطئ القبرصية، بخلاف الرحلة التي غرق مركبُها أخيراً قبالة طرابلس وكانت اعتمدت إيطاليا وجهة لها. وتشير جداول حصلت عليها «الأخبار»، إلى أنه من بين 78 عملية تهريب، تمكّنت القوى العسكرية والأمنية من ضبط 60 مركباً، فيما تمكّن ما يقارب الـ17 مركباً من تخطي المياه الإقليمية، جزء كبير منها أعيد ترحيله إلى لبنان. ومن خلال عملية تدقيق بسيطة، يتبيّن أن «تجارة الموت» تشهد تطوراً ملحوظاً ومتصاعداً، إذ شهد عام 2021 الذروة مع 37 عملية، من بينها 12 تمكّنت من تجاوز المياه الإقليمية. الوتيرة التي عاشها عام 2021 مرجّحة للارتفاع خلال العام الحالي، بحيث تظهر الأرقام أنه ولغاية نهاية شهر نيسان الجاري، بلغ عدد الرحلات المضبوطة تسعاً، فيما تشير التوقعات إلى كسر الرقم القياسي المسجَّل، والتقديرات بمعظمها باتت تقترب من مرحلة الوصول إلى رحلتين أسبوعياً! لكن ما هي الأسباب التي تُساهم في تطوّر هذه التجارة رغم مخاطرها؟

تساهل القضاء
‎تشكل الحالة الاقتصادية، وحتى الأمنية، محفّزاً للكثيرين لخوض هذه المغامرة، غير أن ثمة عاملاً مهماً لا يمكن تخطيه يتصل بتساهل القضاء، ما يدفع إلى زيادة النشاط بدل قمعه. بحسب مصدر قضائي، يفتقد لبنان إلى القوانين الرادعة في مجال «تهريب البشر»، وقد كان هذا الموضوع في صلب مطلب العديد من الناشطين الحقوقيين كي يتم إدراج موادّ جديدة في «أصول المحاكمات الجزائية». على الرغم من ذلك، برز إلى الواجهة قضاة يتعاطون مع القضايا المماثلة بصفة جرم، خاصة في حالات اصطحاب قاصرين، أبرزهم قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار، التي تُحال إليها قضايا تهريب الأشخاص عبر البحر. وقد استندت نصار في غالبية مذكّرات التوقيف أو الادعاءات التي أصدرتها بحق الموقوفين، إلى المادة 586 (الإتجار بالأشخاص) والتي تصل عقوبتها إلى السجن 15 عاماً. وفي هذا السياق، تُشير معلومات أمنية حصلت عليها «الأخبار»، إلى أن نصار تسلّمت 20 ملف تهريب غير شرعي عبر البحر بين عامي 2020- 2021، تجاوز عدد الموقوفين في 19 ملفاً منها ما يقارب الـ50 فرداً وقد ادّعت عليهم جميعاً سنداً إلى المادة 586 عقوبات، باستثناء ملف واحد يتصل بقضية «عبّارة الموت» التي ضجّ بها لبنان عام 2020، إذ طالبت فيها بعقوبة الإعدام للمتورّطين فيها، من بينهم أ.ع. صوفان الذي ألقيَ عليه القبض أخيراً بعدما كان متوارياً، قبل أن يُبادر القضاء لاحقاً إلى إخلاء سبيله، شأنه شأن الـ50 موقوفاً الآخرين. من بين هؤلاء م.ع. البزرباشي وشقيقاه أ.ع. البزرباشي وع.ع. البزرباشي، ج. حبيب وشقيقه م.س.حبيب، أ. السبسبي وشقيقه ع. السبسبي، ط. بهلوان وأشقاؤه من بينهم س. بهلوان، بالإضافة إلى د. إواظة وشقيقيه ع. إواظة وح. إواظة وهي من العائلات المشهورة بالتهريب في طرابلس، ومعهم أ.و. المسلماني وآخرون من آل العبدالله. لكنّ الاسم الذي يُثير الانتباه، يعود إلى نقيب الصيادين في شمال لبنان م. أنوس.
يُراوح بدل تهريب الراكب حالياً ما بين 3500 إلى 4000 دولار


قادة محاور!
وبحسب معلومات «الأخبار»، أوقف أنوس عام 2021 ثم أُخليَ سبيله في ملف يعود إلى خلاف وقع بينه وبين ر. الدندشي (المسؤول عن شراء المركب الذي غرق أخيراً قبالة طرابلس) وشقيقه ع. الدندشي على خلفية عملية تهريب غير شرعية. وفي المعلومات أن آل الدندشي الذين انضموا إلى «كار التهريب» حديثاً، كان أحدهم قائداً لأحد محاور طرابلس إبان المواجهات التي شهدتها المدينة بين عامي 2011 و2014. وكان الشقيقان الدندشي، وفق معلومات «الأخبار»، قد أوقفا أواخر عام 2021 ثم تُركا بسند إقامة على خلفية إبحارهما بقارب يُدعى «إسكندر الكبير» وعلى متنه حوالي 96 شخصاً غالبيتهم من النساء والأطفال. وتشير النشرة الأمنية إلى أن المركب تمّت مطاردته من قبل دورية تابعة للقوات البحرية من دون أن يمتثل لينجح بتجاوز المياه الإقليمية، لكنه عاد وأطلق لاحقاً نداء استغاثة لتتوجه دورية وتعمل على إنقاذ من عليه بعدما كاد المركب يغرق. جميع هؤلاء المذكورة أسماؤهم أعلاه يشكلون «عصابات أشرار» لتهريب الأشخاص لقاء مبالغ مالية بالفريش دولار، يتم تأمينها من قبل المهاجرين من خلال بيع أو رهن ممتلكاتهم.

‎ثغرات قانونية
لكن ما هي الأسباب التي تدفع بالقضاء عادةً إلى إصدار إخلاءات سبيل بحق الموقوفين المتورّطين والتساهل معهم بدل إدانتهم؟
‎القضية متشعّبة، تمتزج بين السياسي والقانوني. فمعظم الناشطين في أعمال التهريب محسوبون على شخصيات سياسية في طرابلس تحديداً. في الإطار القانوني وفي غالبية الأحيان يأتي التبرير بأن القاضي يفتقد إلى عناصر إدانة مسنودة إلى موادّ واضحة، بسبب عيب في المواد التي تحتاج إلى تعديلات، إلى جانب عدم وجود رغبة لدى القضاة في معظم الأحيان بالاجتهاد، خاصة أن معظم الموقوفين ينفون عادة تهمة «تهريب الأشخاص»ويتذرّعون بالهرب لأسباب اقتصادية بدليل اصطحابهم قاصرين. والهرب في مطلق الأحوال قضية لا يعاقب عليها القانون مع لفت النظر إلى أنه يُمكن إنزال عقوبات في حالة اصطحاب القاصرين. هذه الجزئية الصغيرة، يتم استغلالها بشكل واضح من قبل المهرّبين للنفاذ من التوقيف والادعاء. لكن وبعد كارثة «مركب الموت» الأخيرة، والتأكد من أن غالبية العمليات تتم لغاية الربح وتأمين السيولة النقدية بما يتجاوز النفقات المرصودة لأي عملية مماثلة، بات يجب على القضاء إعادة النظر في ملفات التهريب من زوايا مختلفة والتشدّد أكثر.



التحقيقات في «مركب طرابلس»: الاستماع إلى العسكريين
تستأنف التحقيقات التي تتولاها مديرية المخابرات في الجيش اللبناني في قضية غرق المركب الذي يحمل مهاجرين قبالة طرابلس بعد انتهاء إجازة العيد. وأوضحت مصادر متابعة لـ»الأخبار» أنها ستتمّ بناء على مسارَيْن، الأول يقوم على استدعاء المدنيين المتهمين بشراء المركب والإعداد للرحلة وعرف منهم الشقيقان ع.الدندشي و ر.الدندشي، والثاني عسكري، إذ من المرتقب أن يتم استدعاء الضابط المسؤول عن الخفارة التي لاحقت المركب إضافة إلى عسكريين كانوا على متنها ومتن الزورق الذي أبحر لمؤازرتها.
أما قبطان المركب، أ.ج (سوري الجنسية)، الذي كان قد استدعي غداة الحادثة فقد تم الاستماع إليه قبل أن تصدر إشارة بتركه رهن التحقيق.
ولفتت المصادر إلى أن المركب لا يزال تحت المياه، وما يعوّق تعويمه وجوده على عمق يبلغ 470 متراً تقريباً ما يتطلّب وسائل تقنية غير متوافرة لدى الدولة. وقدرت المصادر أن يكون المفقودون عالقين في المركب، تحديداً في الجزء السفلي منه. وعلمت «الأخبار» أن جهات مدنية أبدت استعدادها للمساعدة في تعويم المركب من دون أن يرد أي طلب رسمي من قبلها بعد.