أكثر من نصف الحقيقة في قعر البحر. فالقارب الذي غرق في 23 نيسان في بحر طرابلس يحتوي على جزء كبير من الأدلة المطلوبة لإجراء تحقيق قضائي دقيق وشامل يمكن ان يكشف علمياً حقيقة ما حصل. وقد عثرت فرق الانقاذ حتى الآن على جثث ثماني ضحايا بينما تمكن الجيش من انقاذ نحو 45 من الركاب، وما زال هناك عدد غير محدد من المفقودين في البحر. يتطلب التحقيق كفاءة واختصاصات مهنية في متابعة الأدلة واستكشاف الخيوط وتحديد العوامل السببية المحتملة حتى يتمكن القضاء من كشف مجريات الحادث وتحديد المسؤوليات بعيداً عن الاحكام المسبقة والتكهنات. يفترض ان يبدأ التحقيق بجمع وتسجيل كل المعطيات التي قد تكون ذات فائدة في تحديد «من» و«ماذا» و«متى» و«أين» و«كيف»، والأهم من ذلك، «لماذا» وقع الحادث؟ ويُفترض أن يكون المحققون على دراية بخطر التوصل إلى استنتاجات مستعجلة يمكن ان تصعّب لاحقاً الوصول الى الحقيقة. وبالتالي يُفترض الابتعاد عن الاحكام المسبقة وتجنّب استعجال الخلاصات والاتهامات والادانات، والتوقف عن تسريب التحقيقات، والنظر في النطاق الكامل لجميع الاحتمالات والفرضيات. نعرض في هذا التقرير بعض الجوانب التقنية المحترفة للتحقيق المفترض كي لا تضيع الحقيقة في البحر.

غرق القارب مساء السبت 23 نيسان، وعلى متنه عشرات الأشخاص اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين أغلبهم من النساء والأطفال، بينما تمكن الجيش من إنقاذ العدد الأكبر منهم وانتشل جثامين 8 اشخاص حتى الآن، وما زال البحث جارياً عن باقي المفقودين.
يفترض أولاً ان يتابع الجهاز المكلف التحقيق تفاصيل عمليات البحث والإنقاذ، ولا بد من اعتبار انتشال كل الجثامين من البحر أولوية، ليس لدواع أخلاقية وإنسانية ودينية وحسب، لكن لأسباب تتعلق بالتحقيق القضائي وبهدف جمع المعلومات والتفاصيل عن الركاب وعن مكان وجودهم اثناء وقوع الحادث وعن كيفية وفاتهم ومعلومات أخرى قد تساهم في كشف كامل الملابسات.
وبالتوازي مع ذلك يفترض معالجة الجرحى وايواء الناجين والعناية بالأطفال والنساء والأشخاص الذين فقدوا أولادهم وامهاتهم وآباءهم واخوتهم وأخواتهم.
ولا بد ان يبدأ التحقيق المحترف والاستماع الى إفادات الشهود من اللحظات الاولى، لكن بعناية دقيقة. إذ ان معظم الشهود المدنيين والعسكريين قد يكونون مرهقين وتحت تأثير الصدمة. وبالتالي يفترض التعامل بحذر مع الإفادات الاولية وتسجيلها بدقة وتجنب استخدامها لبناء فرضيات وخلاصات. فتحقيق من هذا النوع يستغرق بعض الوقت. علماً ان المعلومات التي يتم جمعها خلال الساعات الاولى التي تتبع الحدث مباشرة بالغة الاهمية لناحية ترجيح عدم تأثرها بأحداث أخرى وقعت بعد غرق المركب، أو بمعلومات أخرى ذكرت أو بما تنقله وسائل الاعلام، خصوصاً خلال موسم الانتخابات.

مسرح جريمة في البحر
لا بد ان يعمل المحققون، بإشراف القضاء المختص، على تحديد المساحة التي تشكل مسرح الجريمة والعمل على اغلاقها وحراستها. وعلى جهاز التحقيق الاستعانة بالاحداثيات التي سجلت في غرفة المراقبة البحرية بواسطة الرادارات وأجهزة التحديد الجغرافي الالكتروني (جي بي اس). ويختلف تحديد مسرح الجريمة البحري عن البري او الجوي (في طائرة أو منطاد مثلاً) حيث انه يشمل جزءاً فوق سطح البحر وجزءاً آخر تحت سطح البحر. كما لا بد من الإشارة الى ان كامل منطقة البحث والإغاثة ليست بالضرورة ضمن مساحة مسرح الجريمة ويفترض ان تحدد التيارات البحرية والعناصر المناخية والضغط الجوي والبحري للتمكن من تحديد حركة الملاحة والمواقع التي وقعت فيها الاحداث المتسلسلة بموازاة تحديد توقيتها الدقيق. ففي هذه القضية لا بد من مقارنة توقيت الاتصالات وتبادل المعلومات واحداثيات الرادارات البحرية والتحديد الجغرافي الالكتروني للتمكن من وضع خريطة بحرية لمسرح الجريمة يعممها الجيش لمنع دخول أي قارب أو أي غطاس ولمنع تحليق الطيران في اجوائها على علو منخفض ومنع التصوير الجوي.
بعد تحديد وتطويق مسرح الجريمة، يقوم المسؤول عن التحقيق بتقسيمه الى مناطق محددة وتعيين فريق من الخبراء والمحققين في كل منطقة لإجراء المسح الشامل والدقيق بطريقة علمية ومنهجية. يتم تقسيم مسرح الجريمة البحري الى مناطق مع الأخذ في الاعتبار حركة الرياح، وحركة المدّ والجزر، وارتفاع موج البحر، واحتمال وجود تيار أو جرف وغيرها من العوامل المؤثرة.
تساعد هذه الطريقة في البحث عن الأدلة ورفعها بالإضافة لما يتعلق بوجود ناجين أو جثامين المفقودين. يبحث الخبراء عن الأدلة المادية المتعلقة بالحادث، على سبيل المثال المعدات والأجهزة والأجزاء والحطام وما إلى ذلك من كسور وتشوهات في القارب، بالإضافة الى علامات السطح وأنواع أخرى من الضرر على العناصر الهيكلية للمركب.

الإفادات الاولية
عرض الافادات الاولية للشهود والناجين والعسكريين عبر وسائل الاعلام يشكل تخريباً لمسار التحقيق القضائي الصحيح. ويفترض استماع المحققين لأقوال كل من كانوا في مسرح الجريمة بشكل سرّي، ويطلب منهم التكتم حتى لا يؤثروا على إفادات الآخرين. فالمطلوب معرفة حقيقة ما حصل اولاً بينما يبدو ان بعض وسائل الاعلام وبعض الأشخاص والجهات المدنية والسياسية والعسكرية عملت، عن قصد أو غير قصد، على استعجال الإدانة أو التبرئة قبل صدور نتائج التحقيق. ولذلك نتائج سلبية ومحاولة محتملة للتضليل الجنائي.
على الجهة المخولة بالتحقيق الاستماع الى الأشخاص المعنيين بشكل متكرر ليتم وضع تسلسل واضح للافادات ولتدوين أي فروقات او تناقضات او تغييرات محتملة في الافادات. وقد لا تكون التناقضات بهدف التضليل او الكذب لكن هناك عناصر عاطفية أو التباسات أو ضعف رؤية أو ضغوط خارجية أو نفسية قد تساعد على تحليل الافادات بشكل محترف ودقيق.

الأدلة في الجريمة البحرية
يعد جمع البيانات جزءًا مهمًا من التحقيق، اذ ان المعلومات التفصيلية التي يجمعها المحققون والخبراء هي أساس التحقيق بأكمله، بما في ذلك التحليلات والاستنتاجات اللاحقة؛ هذه بدورها تصبح الأساس لتحديد التدابير الوقائية لمنع تكرارها. وبالتالي، من المهم التأكد من أن جميع المعلومات ذات الصلة قد تم جمعها وأن هذه المعلومات دقيقة. بالإضافة الى ذلك، يعد جمع المعلومات وتحليلها عملية متواصلة ومتداخلة تحدث خلال دورة التحقيق، لأنّه مع إجراء تحليل مبكر للأدلة الأولية، تصبح الثغرات واضحة، مما قد يتطلب من الفريق جمع أدلة إضافية.
إضافة الى أقوال الشهود والملاحظات، والأدلة المادية، لا بد من الاهتمام بالأدلة الإلكترونية خلال التحقيقات، كمسجل بيانات الرحلة VDR(Voyage Data Recoder)، الرسوم البيانية الإلكترونية Electronic Chart Display and Information System (ECDIS) ، تسجيلات حركة السفن VTS(Vessel Traffic Service) ، كاميرات المراقبة في القواعد البحرية وغيرها.
بعد دمج مجموعة معقدة من البيانات، بما في ذلك بيانات الاستشعار عن بعد، ونماذج الانجراف، ومقابلات الناجين، وانتشال القارب، ومعاينة خفارة الجيش، يمكن للمحققين إعادة بناء سلسلة الأحداث طوال رحلة القارب، بما في ذلك نقاط المواجهة مع أي قارب آخر. من خلال الاعتماد على علم التحقيقات الجنائية في المحيطات، يكون الخبراء قادرين على إنشاء الرسوم البيانية لتوضيح تسلسل الأحداث التي بدأت عند مغادرة القارب البرّ، وحتى النقطة التي بدأت عندها الحادثة، ونقطة انجراف القارب، وحتى الهبوط النهائي في البحر.

انتشال القارب لإعادة تركيب الحادثة
يبدو أن أكثر من نصف مصادر الحقيقة قد ابتلعها البحر، لذلك لا بد من انتشال القارب وجمع الأدلة التي تساعد في تحديد العوامل التي أدّت الى تحطمه وغرقه، اذ ان معاينة زورق الجيش غير كافية لتحديد مسار ونقطة واتجاه التأثير.
علماً ان الضرر الكبير- ان كان بسبب الارتطام بخفارة الجيش، أو بسبب الضغط الناتج عن صدع في البحر- يمكن ان يشكل تحدياً اساسياً للمحققين، الا ان هذا لا يمنع الخبراء من التمييز بين الضرر الناتج عن الحادث (الارتطام) والاضرار الناتجة عن عوامل أخرى. إضافة الى هذه الحاجة العلمية لانتشال القارب من اجل إعادة بناء مسرح الجريمة وتسلسل الاحداث، هناك جانب اخر لا يقل أهمية، وهو إمكانية وجود جثامين ضحايا عالقين داخل المركب خاصة انه لم يتم حتى الساعة تأكيد عدد المفقودين رسمياً، اذ ان الحمولة الأساسية الدقيقة (قبل الإبحار) لم يتم تحديدها حتى الساعة بشكل رسمي.
عرض الافادات الاولية للشهود والناجين والعسكريين عبر وسائل الاعلام يشكل تخريباً لمسار التحقيق القضائي الصحيح


والى الضرر الكبير الذي ألحق بالمركب، هناك عائق آخر امام المحققين يتمثل بوجود المركب على عمق كبير بحسب قائد القوات البحرية العقيد الركن هيثم الضناوي. وأفادت مصادر غير رسمية بوجود المركب على عمق 400 متر، ما يستوجب إمكانيات وتقنيات متطورة جداً لانتشال المركب بحسب نقيب الغطاسين في لبنان محمد سارجي.
النقيب سارجي أشار ان لبنان لا يمتلك أية إمكانيات لانتشال القارب. وأوضح لـ «القوس» ان وجود المركب على عمق 400 متر، أي على 41 درجة ضغط، يجعل من المستحيل وصول الغطاسين إليه لأن الحد الأقصى للعمق الذي يمكن الانسان الغوص اليه هو 150 متراً. ولذلك لا بد من استعمال تقنية الـ ROV (remotely operated vehicle)، وهي عبارة عن مركبة تعمل تحت الماء، يتم التحكم فيها عن بعد، تربط القارب بمجموعة من الكابلات الموصولة بمنطاد صغير يساعد لدى إطلاقه في انتشال القارب. الا ان هذه التقنية مكلفة جداً في وقت يمر لبنان في أزمة اقتصادية خانقة.



«مركبات التحكم عن بعد»: Remotely Operated Vehicle (ROV)


تعمل تحت الماء ويمكن استخدامها لاستكشاف أعماق المحيطات وللإنقاذ البحري. وهي مجهّزة بكاميرات واضاءة وبذراع ميكانيكية وأجهزة لجمع العينات. تستخدم هذه المركبات للبحث في الأعماق وإجراء مسوحات لحطام السفن بما في ذلك تلك التي يحتمل أن تكون خطرة.
تستعين السلطات الروسية بهذه المركبات للبحث والتفتيش والمسح تحت الماء في بحر البلطيق والبحر الأسود. وتقوم بفحص قوارب الغواصات الذرية الغارقة والذخيرة الكيميائية المسحوبة والنفايات المشعة الصلبة المغمورة بالمياه والسفن الغارقة بالذخيرة العادية والمنتجات النفطية.
تم تطوير ROVs أساساً للأغراض الصناعية، مثل عمليات التفتيش الداخلية والخارجية لخطوط الأنابيب تحت الماء والاختبار الهيكلي للمنصات البحرية.
يتراوح حجم مركبات ROV من حجم كمبيوتر صغير إلى حجم شاحنة صغيرة. مركبات ROV الأكبر حجمًا ثقيلة جدًا وتحتاج إلى معدات أخرى كالرافعات لوضعها على ظهر السفينة أو في الماء.


قياس سرعة الغرق
غرق المركب في «خمس ثواني» بحسب قائد القوة البحرية العقيد الركن هيثم ضناوي ما قد يعني ان المركب كان قد تضرّر بشكل كبير جداً قبل ان يغرق.
يمكن احتساب هذه المدة بشكل تقريبي من خلال مراعاة القوى المؤثرة على المركب الغارق بما في ذلك شكله ووزنه. وباستخدام المعادلات الفيزيائية ومبدأ ارخميدس. يقوم الخبير أولاً بحساب وزن الجسم الغارق بالنيوتن (وحدة قياس القوة) وحساب طفو الماء (Buoyancy) للحصول على القوة الكلية المؤثرة على الجسم الغارق.
من الصعب تحديد سرعة غرق المركب بشكل دقيق لأن ذلك يعتمد على مدى تضرّر المركب، إضافة الى وزنه وشكله.
غرقت سفينة «تيتانيك» الضخمة في أقل من ثلاث ساعات لأن كمية من الهواء بقيت بالداخل بعد أن ارتطمت بالجبل الجليدي. لكن إذا انقسم المركب الى نصفين أو تعرض لضرر أكبر، قد يغرق في دقائق لأن كمية قليلة جدًا من الهواء تكون محتجزة بالداخل.


ماذا قال الجيش؟
‏في 24 نيسان 2022، صدر عن قيادة الجيش انه: «بتاريخ 23 / 4 / 2022 تمكنت القوات البحرية التابعة للجيش حتى الساعة من إنقاذ ٤٨ شخصاً بينهم طفلة متوفية كانوا على متن مركب تعرّض للغرق أثناء محاولة تهريبهم بطريقة غير شرعية، قبالة شاطئ القلمون - الشمال، نتيجة تسرّب المياه بسبب ارتفاع الموج وحمولة المركب ‏الزائدة... ».
-العقيد ضناوي خلال المؤتمر الصحافي في غرفة العمليات البحرية: «حمولة المركب لم تكن تسمح له بأن يبتعد عن الشاطئ ولم يقتنعوا من عناصرنا الذين يعانون نفس معاناتهم، وقائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه».
بتاريخ 26 نيسان 2022، صدر عن قيادة الجيش انه «إثر الحادثة المؤسفة التي أدت إلى غرق المركب في البحر قبالة مدينة طرابلس بتاريخ 23 / 4 / 2022، والتي أودت بحياة عدد من المواطنين الأبرياء، تواصل مديرية المخابرات وبناء لإشارة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي تحقيقاتها، وتمت معاينة مكان الحادثة من قبله مع فريق من الضباط المحققين، وما زالت التحقيقات مستمرة لكشف الملابسات كافة».