عينان غائرتان بسحنة سمراء تآخت مع الشمس، شيبة بيضاء تستظلّ بقبعة القش تزيده هيبة، وأخاديد عميقة ترسم ملامح عمر ابن الخمسة والثمانين عاماً الذي علم شاباً أنّ مهنة المزارع "لا تبني بيتاً ولا تؤسّس عائلة". محمود الدرويش، ابن بلدة السكسكية في الجنوب، توجّه في منتصف الخمسينيات للعمل كعامل بناء لدى أحد أقربائه. سريعاً ادّخر ست ليرات من يوميّته ليشتري بها خشبه الخاص ويؤسّس ورشته. "كانت ورشة متواضعة من عاملين، ففي ذلك الوقت كانت البيوت عبارة عن غرفة ومطبخ وحمام خارجي فقط، أما اذا كان صاحبها مرتاحاً مادياً فإنه قد يمتلك قدرة بناء غرفة إضافية وموزّع". في ذلك الزمن "لم يكن هنالك خرائط هندسية أو رخص أو تنظيم مدني ولم تكن هناك بلديات حتى. كان حفر الأرض للركائز يتم بالمعول والمجرفة، وكنا نستخدم رمل البحر في الجبلة، والمتر كان عبارة عن مسطرة تُطوى مصنوعة من الخشب حدودها متر واحد، وكنا نذهب إلى الورشة التي غالباً ما تكون في البلدات المجاورة على الدراجة الهوائية، ونأخذ زوّادتنا من الطعام من منازلنا، وكان يوم صبّ السقف يوماً حافلاً لأن الجبلة كانت تخلط على اليد ورفع الإسمنت أعلى السقف على اليد أيضاً، فكنّا نستأجر عمّالاً إضافيين من الرجال أو النساء أجرة الواحد منهم تُراوح بين 3 و4 ليرات في اليوم".
بقيت ورشة «أبو علي» محدودة العمّال لأن السوق العمراني كان متواضعاً حتى عام 1965. عندها انتقل إلى بيروت وتسلّم إدارة التنفيذ في ورشة المعلّم جرجس الشعّار. "في بيروت كانت وتيرة العمل أسرع، والنمط العمراني اختلف كلياً، وأصبحت الجبلة موكلة للجبّالة التي تعمل على الكهرباء والرفع يتم عبر الونش". ومجدداً، أنشأ أبو علي ورشته الخاصة واشترى الخشب والعدّة اللازمة بكفالة من جرجس نفسه. أوّل تلك الورش كان مستشفى مكة في جويا في جنوب لبنان والتي تألّف من طبقتين بمساحة 400 متر لكل طبقة، وكان مبنى ضخماً نسبة إلى حجم العمران في الجنوب. بعدها عاد أبو علي الى بيروت والتزم عشرات الورش في النبعة وسد البوشرية، والحمرا، وبرج حمود، والدكوانة، وصولًا إلى ضبية، بعبدات، بيت مري والمنصورية، كما تسلّم مبانيَ في الضاحية الجنوبية ولا سيما في الغبيري والشياح وغيرهما.
امتلك أبو علي شهرة واسعة في ذلك الوقت لدقّة عمله وسرعة تنفيذه. هذه الشهرة بالإضافة إلى علاقاته الطيبة مع أبناء هذه المصلحة أوصلته الى منصب أمانة سرّ أول نقابة تأسّست في لبنان للمتعهّدين والتي تأسّست عام 1973 واُنتخب أعضاؤها بالتصويت تحت إشراف وزارة الداخلية في وقتها من بين 400 متعهد في بيروت وضواحيها. كانت صلاحيات النقابة تطاول كل أوجه هذه المهنة. يحدثنا أبو علي عن أحد المواقف التي يذكرها الى الآن حينما اعترض أحد المتعهدين على غلاء أجرة عمّال الجنوب، لائماً الدولة على إعطائهم رخص زراعة التبغ ما دفعهم إلى التوجّه للزراعة ورفع بالتالي أجرة العامل منهم. "يومها ارتفع صوتي خلال الاجتماع مستنكراً حجّته لأن الدولة أعطتهم رخصة ليعملوا بها بعرق جبينهم".
شغل منصب أمانة سرّ أول نقابة تأسّست في لبنان للمتعهّدين


الشاب الذي تعلّم في صغره على الطريقة التقليدية لذلك الزمن، على يد السيد محمد باقر إبراهيم، انجذب إلى دروس الحساب واستفاد من هذا الشغف لتطوير عمله ورسم خرائطه بيديه. يقول: "في البداية كنت أرسم خرائطي على طريقتي وعندما عملت في بيروت أصبحت أدقق في خرائط المهندسين وبعد فترة تمكنت من الإحاطة بمختلف جوانب رسم الخرائط وقراءتها من دون أن أتعلم على يد أحد". تطورت ورشة «أبو علي» في بيروت وأخذت مجدها فوصل عدد العمال فيها إلى الثلاثين. يقول: "شهدت ضواحي بيروت في ذلك الوقت فورة عمرانية وازداد عدد المباني التي تصل إلى سبع وثماني طبقات وكنت محط ثقة أصحاب الملك والمهندسين".
بعد اشتداد وتيرة الأحداث في الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات عاد إلى السكسكية، تاركاً خلفه ما يزيد عن الألف متر مسطح من الخشب وعندما عاد لجلبها لم يجد لوحاً واحداً إذ استخدمها الناس للتدفئة بعد انقطاع الغاز. "نويت عندها البدء من جديد ولم يكن معي سوى أربعة آلاف وخمسمئة ليرة وعندما سمع باقي الزملاء ممن كنت قد ساعدتهم في فترات سابقة توافدوا إلى إقراضي ليصل المبلغ الى خمسة وعشرين ألفاً ما مكّنني من إعادة العمل بالورشة ولكن هذه المرة في الجنوب". فقد شهدت المنطقة فورة عمرانية في الثمانينات ودخلت أنماط جديدة في البناء "بنيت أول مبنى من ثلاث طبقات في العاقبية، وقصوراً بهندسة وحجم لم تعهدهما بلداتنا في البابلية والسكسكية".
قطع أبو علي شوطاً كبيراً منذ أن أمسك شاكوشاً وبلبلاً لأول مرة ولا يزال، بعد حوالي السبعين عاماً في المهنة، يحكم قبضته وهو يطرق على الحجر ويعدّل زاوية ويدير طاقم عمل بالعشرات. "اختلفت وسائل البناء إلا أن الأساسيات لا تزال نفسها وتطوّرت الخرائط والهندسات لكنّ التفاني بقي هو نفسه".