«ليه التصويب على مؤسسة رينيه معوض، مع العلم أن مؤسسة رينيه معوض بتشتغل بكل لبنان؟»، تساءل النائب ميشال معوض في ظهور تلفزيوني له أخيراً على شاشة mtv، وأجاب بنفسه: «واضح، لأن مطلوب التصويب علينا... إنه زلمة الأميركان». فما هو نشاط «مؤسسة رينيه معوض»؟ وهل ميشال معوض «زلمة الأميركان»؟
«بتشتغل بكل لبنان»
التقرير المفصل لنشاطات «مؤسسة رينيه معوض» للعام 2021 المنشور على موقع الفرع الأميركي للمؤسسة يوحي، من خلال عدد من الخرائط، بالتوزيع العادل للمشاريع في مختلف القطاعات على الجغرافيا اللبنانية. إشكالية هذه الخرائط أنها لا تلحظ عدد المشاريع ولا تلحظ ميزانياتها. في الخريطة المرفقة تم رصد كل المشاريع المعلنة مع ميزانياتها على موقع المؤسسة اللبناني، إضافة إلى تلك المذكورة في المراسلات مع «أصحاب المصلحة»، وبعد ذلك تم تحديد المنطقة المستفيدة، وعندما لم تذكر المنطقة بشكل واضح، أو ذكر أن المشروع معني بلبنان ككل، افترضنا حسن النية، وقسّمنا الميزانية بالتساوي بين المناطق اللبنانية، ومع ذلك بقي الشمال الأكثر حظاً في عدد المشاريع والأكبر حظاً في الميزانية في كل القطاعات.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في قطاع الزراعة، حظي الشمال بـ 6 مشاريع، وعكار حازت بـ 5، بينما حاز كل من بعلبك والجنوب على مشروعين فقط، ولا عزاء للنبطية في هذا القطاع. في القطاع الزراعي نجد تركيز المؤسسة التي ترسل المعونات الغذائية على مشاريع الزراعة الأحادية بهدف التصدير، في ما يعرف اليوم بالمحاصيل النقدية (cash crops).
وأثبتت التجربة أن هذه المشاريع التي تصل ميزانيات بعضها إلى 14 مليون يورو إشكالية بحد ذاتها كونها تهدد الأمن والسيادة على الغذاء، لأنها توجه الاقتصاد الزراعي إلى استنزاف التربة والموارد لخلق بنية تحتية زراعية مكلفة تنتج بهدف الربح من محاصيل تخضع لدورات تضخم وهبوط في الأسعار (مثل الأفوكادو والكرز وغيرها من الفواكه ومنتجات زراعة الهيدروبونيكس)، بمعنى أن هذا النوع من الزراعة يقوم على الفقاعات الربحية المبنية على المضاربة بالأسعار، إذ أن واحداً من هذه المحاصيل يرتفع سعره مع ارتفاع الطلب عليه كنوع من الصيحات الغذائية، ما يزيد عدد المشاريع المنتجة له. وفجأة، ومن دون سابق إنذار، يشبع السوق وتنخفض الأسعار وتنهار المنظومة الإنتاجية وتغلق معظم المزارع وتفلس، ونتيجة لهذا الإفلاس ينتج نقص جديد في هذه المنتجات فترتفع الأسعار مرة أخرى وتخلق فقاعة ودورة جديدة من البؤس.
إحدى العبارات التي تستخدمها المؤسسة للترويج لهذه المشاريع تقول: «تيبقى اللبناني بأرضه». لكن، للأسف، للتاريخ قول غير ذلك. فهناك متلازمة ترافق هذا النوع من المشاريع، تتمثل بالاستغلال الاقتصادي الفظيع للمزارعين، وإفقار الأرض والتربة وتلويثها، وإفقار المجتمعات المضيفة لأساسيات الغذاء. والتاريخ هنا يعود إلى القرن التاسع عشر، والمؤرخ الأهم لهذه المتلازمة هو إدواردو غاليانو في كتابه «الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية»، والحديث لا يقتصر على جرائم ومذابح شركة الفواكه المتحدة، بل يصف نفس هذه الدورة الاقتصادية المميتة التي تشي بعلاقة الاستعمار الجنينية بالزراعة الأحادية المدفوعة بالتصدير والربح.
نقطة لافتة أخرى يتحدث عنها غاليانو، هي أن سبب التباين بين المجتمع الذي خلّفه الاستعمار بين شمال وجنوب القارة هو نوع الزراعة. فبينما زرع الشمال الحبوب والذرة إلى جانب المحاصيل الربحية، اقتصرت الزراعة الجنوبية على الزراعة الأحادية الربحية، الأمر الذي تسبب بكثير من المجاعات والفقر والصراعات والهجرات في الجنوب، مما يطرح تساؤلاً مهماً: لماذا تحرص الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة على زراعة القمح والحبوب في أراضيها، وفي الوقت نفسه تمول مشاريع الزراعات الأحادية المميتة بمئات الملايين من الدولارات؟ هذا بحث طويل، لكنه مهم وجزء أساسي من السياسة الخارجية الأميركية والغربية عموماً ويستحق البحث بشكل مستقل.
المشاريع الاقتصادية هي الأخرى أكثر تركيزاً في الشمال لناحية العدد والميزانية. في المقابل، تكاد تنعدم في الشرق والجنوب، وهنا تأكيد آخر على سياسة الإنماء غير المتوازن الذي تتضاعف خطورته إذا ما استخدمت التفاوتات بين المناطق للتصويب الطائفي والسياسي، مما يجعل من هذه المشاريع بذوراً للانقسام والتقسيم.
كل هذا يتأكد إذا ما نظرنا إلى الاستثمار الضخم الذي وضعته السفارة الأميركية في مشاريع اللامركزية والسلطات المحلية. إذ إن مشاريع المؤسسة معنية بعشرات البلديات المختارة وتهتم بالقوانين، وتدريب الموظفين، وهيكلية الإدارة والتنظيم المحاسبي وإصدار التقارير والتوثيق، وبآلية اتخاذ القرار وتأمين المشاريع الحيوية الصغيرة والتعليم والصحة، كل هذا تحت عين السفارة الأميركية وإدارتها.
هنا، حين تنظر إلى المناطق التي طاولتها المشاريع وحيثياتها، تجد أن «حالات حتماً» مشروعٌ حيّ، وأن اللامركزية تخطط مركزياً في عوكر، وعلى يد السفارة يتم إرساء البنى التحتية لهذه اللامركزية، ويتم تدريب الكادر الإداري لها.
أما قطاع البنى التحتية، هنا في لبنان حيث الحاجة ماسة لمشاريع المياه والصرف الصحي والكهرباء، والتي يمكن للبنان حلها جميعاً لولا فيتو السفارة، فمن أصل 50 مشروعاً رصدت للجمعية هناك 7 مشاريع خاصة بالبنية التحتية بميزانيات متواضعة نسبياً، و6 من هذه المشاريع مخصصة للاجئين السوريين ومجتمعاتهم المضيفة.

التمويل والشفافية
تعتمد مؤسسة رينيه معوض بشكل أساسي على 3 موارد دخل أجنبية، أصغرها الأمم المتحدة التي تتوزع أولوياتها بين التعليم، والاقتصاد والبنية التحتية.
ثاني أكبر ممول هو الاتحاد الأوروبي ومنظمات أوروبية أخرى. والأولوية هنا للزراعة بالدرجة الأولى، يليها الاقتصاد فالتعليم ثم اللامركزية والسلطات المحلية فالبنية التحتية.
أما الدولة المانحة الأكبر فهي الولايات المتحدة ووكالة «USAID» السيئة الصيت، باستثناء مشروع وحيد ممول من الخارجية الأميركية بشكل مباشر. وأولوية الأولويات لدى الأميركيين هي اللامركزية والسلطات المحلية.
بحسب الموقع اللبناني للمؤسسة، لا يوجد أي تقرير سنوي يوضح الدخل المفصل والنفقات المفصلة كما تقتضي ممارسات النزاهة المتعارف عليها لهذه المنظمات. علاوة على ذلك، تختلف التقارير وشكلها بحسب الطرف المتلقي، من الجمهور اللبناني إلى الجمهور الأميركي، إلى الشركات وأصحاب المصلحة، أما أعلى درجات الشفافية فمحفوظة للحكومة الأميركية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

فما نعلمه هو أن الـ«USAID» تخضع «مؤسسة رينيه معوض» لتدقيق محاسبي ضمن بروتوكول قانوني معين لكل مشروع مشترك، وكما يبدو، فإن هذه الإجراءات غير كافية في نظر السفارة الأميركية في لبنان. إذ وجدنا أربعة تقارير مرسلة من الوكالة إلى عوكر، تذكر فيها أن «مؤسسة رينيه معوض» خضعت لتدقيق محاسبي بروتوكولي للمشروع الفلاني ضمن الاتفاقية الفلانية والبالغ قدره كذا مليون دولار، ووجدنا أن المؤسسة لم ترتكب إلا بعض الأخطاء البسيطة. وفي كل من التقارير الأربعة تخبر الوكالة السفارة أن تقارير كهذه لا تصدر ولا تنشر بشكل تلقائي، وتنصح بعدم المطالبة بها بشكل مستمر حفاظاً على السرية. فما السري في أعمال الخير والعطاء الأميركية؟ ولماذا لا تثق السفارة بـ«مؤسسة رينيه معوض» إلى درجة طلب تقرير كهذا لأربعة مشاريع مختلفة خلال سنتين؟ والأهم من هذا كله لماذا تقتصر الشفافية على الممولين والمانحين؟
إشكالية التمويل الكبرى تكمن في تفاوت ميزانيات بعض المشاريع بين المعلن على الموقع والمنصوص عليه في المراسلات مع «أصحاب المصلحة».
تتفاوت شفافية التمويل بحسب الجهة. في المرتبة الأولى يبدو أن التمويل الأوروبي بحسب الوثائق المنشورة شفافٌ بنسبة تفوق 95%. أما بالنسبة للأمم المتحدة، فتنحدر الشفافية إلى مستوى يقارب 65%، كما أن المرتبة الثالثة ولا ريب للأميركيين إذ تنخفض الشفافية إلى 10%، والحديث يخص مشاريع اللامركزية والسلطات المحلية بشكل أساسي، ويبلغ فارق التمويل بين المعلن على الموقع والمذكور في المراسلات مع «أصحاب المصلحة» حوالي 514 مليون دولار، أغلبها يذهب لأحد مشاريع اللامركزية والسلطات المحلية بقيمة 498 مليون دولار! وتمثل ميزانية هذا المشروع ما نسبته 84% من كامل الميزانية التي تم رصدها عن المؤسسة ومختلف مشاريعها التي تم رصدها منذ عام 2007 إلى اليوم. وبشكل عام، عند تصفّح مشاريع المؤسسة لن تجد أي مشروع ذا قيمة نابع من الأرض وتم تمويله من الخارج. بالعكس المشاريع تفصل في الخارج وتسقط على لبنان مثل اللامركزية والغناء من أجل السلام والزراعة الربحية وغيرها.
مليون يورو لمشروع توزيع بعض قطع الإنارة و37 ألف يورو لأربع ورشات لغناء الأطفال


آخر إشكالية شفافية للمؤسسة هي التكاليف التي تبدو مبالغاً فيها. إذ إن غياب الميزانيات بالإضافة إلى غياب الوصف الواضح والدقيق للمشاريع يعطيان انطباعاً بأن المصاريف متضخمة، مثل أن تجد مشروعاً حول ترشيد استهلاك الطاقة على المستوى المنزلي، لـ4000 مستفيد، ويبدو أنه عبارة عن محاضرة لعدد محدود في قاعة بلا تجهيزات، وتوزيع بعض قطع الإنارة التي تحفظ الطاقة، بميزانية تفوق مليون يورو؟ أو لماذا تكلف أربع ورشات غناء لأطفال في قاعات غير مجهزة 37 ألف يورو؟…

الرئاسة على جناح المنظمات غير الحكومية
ختاماً هناك إشكالية تتعدى شخص النائب المستقيل معوض. ماذا يعني وصول الرئيس إلى سدة الحكم على جناح المنظمات غير الحكومية؟ يمكن الاستعانة بتجربة هاييتي ورئيسها أريستيد لرسم تخيل لهكذا جمهورية… وأريستيد، رئيس يساري ثوري طردته أميركا من بلده وفاوضته للعودة تحت شرط تشريع عمل المنظمات غير الحكومية، والنتيجة؟ النتيجة أن هذا البلد أصبح الأفقر في النصف الغربي من الكرة الأرضية، بعدما جفت موارده وخضع للخصخصة وتحكمت فيه المنظمات غير الحكومية، إذ تمتاز هاييتي اليوم بأعلى تركيز للمنظمات غير الحكومية في العالم إلى الحد الذي أطلق عليها الباحث والناشط فيجاي براشاد اسم جمهورية الـ NGOs. هذا البلد الذي كان جوهرة الأنتيل، أصبح أفقر دولة في النصف الغربي من الكوكب، مدى البؤس والفقر في هذه الجزيرة الجميلة لا يوصف، حيث تعمل قوى الأمم المتحدة كقوات قمع تضرب وتعتقل المعارضين، وينتهك مئات العاملين الإنسانيين الدوليين أجساد الهايتيين جنسياً ومنهم أطفال. في هاييتي نرى هذه المنظمات على حقيقتها، وكيف تتصرف بأريحية بعدما تسود وتسيطر بعيداً من الدعاية والإعلام وتضمن غياب الدولة.
إذاً إما أن تكون داخل الدولة أو خارجها، والمنظمات غير الحكومية خصوصاً الـ USAID هي خارجها. كيف يبرر من يطمح للرئاسة عمله وإيمانه بتفكيك الدولة ودورها الاجتماعي والاقتصادي والتخطيطي لصالح المنظمات غير الحكومية؟ إن كانت «مؤسسة رينيه معوض» تغذت على غياب الدولة وعملت على تعزيز هذا الغياب، واستقوت بالتمويل الأجنبي للبناء والتنظيم الاجتماعي بحسب الأجندات الخارجية، فأي فائدة ترجوها من الدولة للصالح العام والوطني؟