منذ هجرة المردليين (عرب المدن التركية الشرقية) والأكراد إلى لبنان، لم يعرف هؤلاء عهداً ذهبياً يتحسّرون عليه. غالباً ما يُخلط بين الأكراد وبين المردليين الذين يشكّلون الغالبية الساحقة ممن يُطلق عليهم «الأكراد». لا يتذكّرون زعيماً سياسياً واحداً جرّب احتضانهم من دون استغلالهم. وحده سامي الصلح أنصفهم بتجنيس أعداد منهم عام 1965. يعرفون أن «سامي بابا»، كما يلقّبونه، كان يريد أصواتهم، لكنه على الأقل «أعتقهم» من معاناة دفع بدلات تجديد أوراقهم مرة كل ثلاثة أعوام، وحال دون أن يغيّر بعضهم ديانته بعدما عُرضت عليه الجنسية مقابل الانتساب إلى الطائفة المارونية.الرئيس رفيق الحريري فعل ذلك أيضاً، عندما أدخل أسماء الآلاف منهم في مرسوم التجنيس عام 1995. لكنهم يحفظون جميل الصلح أكثر من الحريري، إذ إن ملف التجنيس كان مطلباً سورياً في مفاوضات الطائف، وجاء تجنيسهم «على البيعة». من بعدها، لم يأتِ أي زعيمٍ سياسي على سيرتهم.
الشعور بالغبن مزمن. لا يريدون أكثر من حضنٍ سياسي يلتفت إلى وجودهم وحيثيتهم في الشارع البيروتي. يعتبون على سياسيين لا يتذكرون عناوين منازلهم إلا «مرة كل أربع سنوات»، بحسب المرشح السابق وهاج الشيخ موسى، مستذكراً يوم أبلغه رفيق الحريري باستحالة ترشيحه على لائحته «كي لا يحرق اللائحة». الأمر، باختصار، «أنهم لا يعتبروننا من البيارتة الأصيلين، فيما جميع العائلات البيروتية ليست من العاصمة في الأصل». علماً أن عائلة عميرات، مثلاً، تعدّ ثالث أكبر عائلة في بيروت بعد عائلتي عيتاني والمصري.
المردليون - الأكراد «بلوك» انتخابي «محرز» يتنافس عليه السياسيون... من دون مقابل. إذ يُقدّر عدد من يشارك منهم في الاقتراع بأكثر من 12 ألفاً في لبنان ونحو 20 ألفاً في الخارج. بحسد، ينظرون إلى الأرمن. الأخيرون لهم كوتا نيابية ووزارية ومراكز عليا في الدولة، فيما أسفر «النضال» الذي راكمه المردليون - الأكراد عن نيلهم مقعداً في المجلس البلدي في بيروت وعدداً من المخاتير أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. بنى الأرمن مدارس وكنائس وجامعات، فيما هم لا يزالون في انتظار إنشاء مركز صحي وعدهم به رفيق الحريري ولا يزال حبراً على ورق. رغم ذلك، لا يريدون استنساخ التجربة الأرمنية في لبنان. يقول مختار زقاق البلاط جمال عميرات: «نريد أن يتعاملوا معنا على أساس أننا عائلة بيروتية كبيرة، لا أكثر ولا أقل». أما اتهام الدول الفاعلة انتخابياً في لبنان، كسوريا سابقاً ثم السعودية، بالاعتراض على وصول نائب مردلي إلى البرلمان باعتباره سيكون وديعة تركية، فيثير سخرية المردليين. إذ إن الدعم التركي «صيت غنى ولا صيت فقر».
بعد انتهاء الحرب الأهلية، لم يملك المردليون - الأكراد مشروعاً للانخراط في العمل السياسي، بسبب طغيان العشائرية التي تحول دون توحيد مرجعيتهم. تجربتا ترشيح إلى البرلمان خاضهما وهاج الشيخ موسى في دورتي 1992 و1996. فشل في الأولى «بسبب عملية تزوير» على حد تعبيره، وأخفق في الثانية بسبب تعرضه للتشطيب من جمعية المشاريع الخيرية.
أكثر من 9000 من المردليين - الأكراد سيصوّتون لـ«المشاريع» في بيروت


قبيل دورة 2000 قصدوا قريطم مطالبين بتمثيلهم، فردّ الحريري الأب: «اتفقوا على اسم وعودوا إلي». وكان، على الأرجح، يدرك صعوبة أن يتفقوا على مرشحٍ واحدٍ، فلم يرجعوا إلى «الشيخ رفيق». الحريري الابن لم يطالبهم بالاتفاق على مرشّح، بل اكتفى باسترضائهم بعضو مجلس بلدي منتمٍ إلى تيار المستقبل بعد زيارة للمخاتير إلى بيت الوسط عام 2016. رغم ذلك، بقي الأكراد أوفياء للحريري. نصفهم، على الأقل، كانوا يصوّتون للحريري الأب ثم الابن الذي استمالهم بالعاطفة، رغم أنهم لم ينتفعوا من «دولة الرئيس» ولم يكن أي منهم يوماً ضمن دائرته المقربة أو في مركز القرار.
في المقابل، كانت جمعية المشاريع الخيريّة «ملجأ» النصف الثاني. التفّ كثر حول الشيخ عبدالله الهرري منذ أن وطأت قدماه أرض لبنان وبدأ دعوته. هم الذين هاجروا من مدن تركيا الشرقية وجدوا أفكار «الحبشي» قريبة من المذهب الأشعري الصوفي الذي يتبعونه. وعليه، ساعدوا «الشيخ» على تأسيس «الجمعية» والتزموا عقيدتها الدينيّة وشكّلوا قاعدة جماهيريّة واسعة لها، وأعطوا النائب عدنان طرابلسي في انتخابات 2018 نصف الأصوات التي نالها. وتتوقّع الجمعية ارتفاع العدد في الدورة المقبلة بسبب تصويت المغتربين. إذ إن أكثر من 5000 منهم سجّلوا أسماءهم للمشاركة في عملية الاقتراع من الخارج، سيكون لـ«الأحباش» حصة الأسد فيهم. كما تراهن «الجمعية» على حصد مزيد من أصواتهم بعد اعتكاف الحريري، باعتبار أن بعض المقربين منها عقائدياً كانوا يصوّتون لصالحه في السابق.
التصويت لصالح الجمعية محسوم، إلا أن العتب بين الطرفين موجود. لم يعطِ رئيس الجمعية الشيخ حسام قراقيرة موافقته على ترشيح رئيس حزب الولاء محمد عميرات، المحسوب على «المشاريع»، فما كان من الأخير إلا أن قدّم ترشيحه قبل يومٍ واحد من إقفال باب الترشيحات. يومها، «قامت الدنيا ولم تقعد» داخل «الجمعية» بعدما بات عميرات المتمرّد الوحيد الذي عصى أمر القيادة الحديدية. تتعدّد الروايات حول ترشيحه، بين من يشير إلى أنه أراد أن يعكس رغبة المردليين - الأكراد بالتمثل داخل المجلس، وبين رأي قراقيرة الذي يجزم بأن «المقتنعين في عقيدة الجمعية يجب ألا تكون النيابة طموحهم». في المحصلة، حُلّت المسألة، فسحب عميرات ترشيحه وأعلن دعمه وعائلته لمرشحَي «الجمعية» عدنان طرابلسي وأحمد دبّاغ. وعليه، تتوقع الماكينات الانتخابية أن تحصد «الجمعية» أكثر من 6 آلاف صوت من المردليين والأكراد في لبنان و3000 من أصواتهم في الخارج، فيما سيلتزم البعض قرار الرئيس سعد الحريري.
حاول النائب فؤاد مخزومي استقطابهم، لكنه لم يفلح في الحصول على وعودٍ من شريحة كبيرة. ويتردّد حديث عن قنوات مفتوحة بين الرئيس فؤاد السنيورة وأحد وجهائهم لصبّ أصواتهم للائحة «بيروت تواجه». لكن يُستبعد أن تكون الحماسة للسنيورة كبيرة. أما لائحة نبيل بدر فستحصل حتماً على عددٍ من الأصوات، وتحديداً لعماد الحوت باعتبار أن عدداً من المردليين - الأكراد محسوبون على الجماعة الإسلامية ومن بينهم قياديون فيها. مع ذلك، لا يبدو أن عددهم سيتخطّى الـ1000، خصوصاً أن عدداً منهم هاجروا في الفترة الأخيرة بعدما استعادوا هوياتهم التركية الأصلية.
كذلك يحاول الحزب التقدمي الاشتراكي استمالة بعضهم للتصويت لفيصل الصايغ، مرشّح وليد جنبلاط الذي يدغدغ مشاعرهم عندما يحتاجهم بتذكيرهم بأنه من عائلة «جانبولاد» ذات الأصول الكرديّة. يحفظ المردليون - الأكراد لكمال جنبلاط مساعدتهم، حين كان وزيراً للداخلية، في إعطاء العلم والخبر لجمعياتهم وأحزابهم. لذلك، انخرط بعضهم في صفوف «الاشتراكي» خلال الحرب الأهلية، لكن إدارة وليد جنبلاط ظهره لهم بعد انتهاء الحرب جعلتهم يعيدون النظر في علاقتهم به.



الأكراد.. ليسوا أكراداً
90% ممن يُطلق عليهم تسمية أكراد هم في الحقيقة «مردليون»، أي عرب تركيا الذين هاجروا إلى لبنان من مدن شرق تركيا وتحديداً من ماردين. نصف هؤلاء يحملون جنسيات سورية وعراقية وجنسيات أُخرى، فيما الباقون يحملون الجنسية اللبنانية التي حصلوا عليها في مرسومي التجنيس عامي 1965 و1995.
أكثر من 150 عائلة مردلية يعيش معظمها في زقاق البلاط والباشورة والمرفأ. وتُعد بعض العائلات كفخري وفخرو... من شيوخ المردليين.
تصل أعداد المردليين - الأكراد المسجلين في بيروت إلى 35 ألفاً، هاجر نصفهم إلى خارج لبنان وغالبيتهم إلى ألمانيا منذ حركة الهجرة الأولى عام 1984. فيما يؤكد بعض الأعيان أن العدد أكبر من ذلك، إذ إنّ «العديد من العائلات التي تُعد بيروتية الأصول هي فعلياً كرديّة (كآل ماردين مثلاً)».