يأتي الاستحقاق النيابي في 15 أيار المقبل، في أعقاب اتفاق «على مستوى الموظفين» مع صندوق النقد الدولي. ويُفترض أن يقوم المجلس الجديد بترجمته من خلال إقرار مجموعة تشريعات ترمي إلى توزيع الخسائر ووقف مفاعيل الانهيار، تمهيداً لبدء الإصلاح والتعافي ثم النهوض. وبدلاً من أن يتركّز النقاش حول خيار اللجوء إلى الصندوق ونتائجه على الاقتصاد والمجتمع، يركن المرشحون من فريقَي السلطة الحاكمة ومَنْ هم خارجها، إلى خطاب الإنكار. تقدّم السلطة أولوية رسم تكتّلات سياسية واسعة على معالجة الأزمة، فيما غالبية القوى المناوئة لها، لا تتبنّى أي رؤية موضوعية أو نقدية تجاه الأزمة أو تجاه العلاقة مع صندوق النقد. الإنكار بالنسبة إلى السلطة هو تحصيل حاصل، إذ لا يؤمّل منها أمر كهذا، ولا يناسبها حصوله أيضاً. وفي مقابلها، هناك «نخب» الطبقة الوسطى الذين صنّفوا أنفسهم قيادات بمرتبة اجتماعية أعلى انطلاقاً من صفاتهم القيادية في 17 تشرين الأول 2019، لكنهم يتموضعون في الاستحقاق النيابي ضمن مسارين: عائدون إلى حظيرة الطوائف والانخراط في الإنكار، وساعون لاقتناص فرصة الفراغ السياسي المتاح في بعض المقاعد من دون تقديم أي مشروع بديل للحكم يحاكي وجود أزمة. في الواقع، هكذا ترشّح الكثير من أعضاء قوى ما بعد 17 تشرين الأول، وبالطريقة نفسها تشكّلت اللوائح أيضاً.خطاب الأزمة والمشروع البديل ليس موجوداً في عقل هذه «النخب» رغم أنها الفئة الأكثر تضرّراً من الأزمة. هي شريحة اجتماعية كانت لديها امتيازات واسعة في بنية النظام، ولا سيّما في التقديمات الصحية وتعويضات التقاعد، والقدرة على تحديد الدخل، الاستفادة من القروض المدعومة... حتى أنّ لديها سمات امتيازية تدلّ على مرتبتها الاجتماعية مثل الإشارات على أرقام لوحات السيارات المرخّصة أو تخصيصها بحصّة من الضرائب. أساتذة جامعات، قضاة، محامون، مهندسون، أطباء، صحافيون... كلّهم فقدوا هذه الامتيازات. قبل أن يدركوا ذلك، اعتنقوا خطاباً ثورجياً في 17 تشرين الأول 2019، لكن مع تقدّم الأزمة اكتشفوا خسارة امتيازاتهم، ما فرض عليهم سلوك خيارات مختلفة. هناك فئة قرّرت أن تهاجر، وأخرى قرّرت البقاء والعودة إلى الانخراط في منظومة المصالح السلطوية والارتقاء ضمن السلّم المتاح من خلال العلاقة مع الزعيم والطائفة، وفئة أخرى قرّرت أن تنازع السلطة في الانتخابات لا لأنها تريد الإصلاح والتعافي والنهوض عبر مشروع بديل وبرنامج واضح لما تفترضه حول صورة لبنان بعد الانهيار، بل لأنها تؤمن بأن هذا هو الطريق لاستعادة امتيازاتها السابقة.
لا يمكن تعميم هذا المشهد على الجميع، إنما هو مشهد حقيقي واقعي فيه استثناءات. فالمشروع الأكثر وضوحاً في مقابل السلطة، هو مشروع «حركة مواطنون ومواطنات في دولة». لدى الحركة رؤية لما يفترض أن يكون لبنان مستقبلاً سواء في علاقاته السياسية الداخلية والخارجية، وسواء في بنية اقتصاده ومجتمعه.
هذا لا يعني أن رؤية الحركة غير قابلة للنقاش والانتقاد، إنما هل قدّم آخرون مشروعاً بديلاً مختلفاً خارج سياق «نهش» حصّة من مواقع السلطة هنا أو هناك؟
من المستغرب أنّ يتسابق الجميع، اليوم، إلى حماية أموال المودعين، ولا سيّما نقابات المهن الحرّة التي تزعم بأنها رأس حربة «النخب» التي تقف بوجه قانون الـ«كابيتال كونترول». هي نفسها النقابات التي لم تنهزّ لمواجهة تبديد احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية طوال سنتين ونصف، وهي نفسها رفضت أن تقوم بأي خطوة لحماية المدخرات في صناديقها بين عامَي 2018 و2019. أصلاً، هل يصحّ اختزال كل الأزمة بالدفاع عن المودعين؟ ألم يتكبّد باقي اللبنانيين خسائر ضخمة أيضاً؟ خسر اقتصاد لبنان نحو 38 مليار دولار خلال سنتين ونصف السنة متراجعاً من 55 مليار دولار إلى 17 مليار دولار عام 2021 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. وتراجعت حصّة الفرد من الناتج من 8 آلاف دولار قبل الأزمة إلى 4 آلاف دولار عام 2020 ثم إلى 2500 دولار حالياً. وقد تراكم التضخم خلال السنتين الماضيتين ليبلغ 800%. وانخفض تصنيف لبنان من الدول المتوسطة الدخل إلى الدول الفقيرة الدخل فيما خسر المقيمون في لبنان أكثر من 15 سنة كأنها لم تكن. كان يُفترض أن يعلن رئيس حركة مواطنون ومواطنات شربل نحاس، تقديراته لهرم السكان في السنوات المقبلة بناء على عدّة سيناريوهات أعدّت لهذه الغاية. تظهر النتائج أنّ من سيبقى في لبنان في 2035، هم غالبية فقيرة من اللبنانيين الذين لم يتسنّى لهم الهجرة، ومن السوريّين الفقراء أيضاً، مقابل شيخوخة متزايدة ومجتمع هرم. هذه هي نتائج الأزمة التي يجب التعامل معها، ولا يجب حصر الأمر بالاستحقاقات الكبرى سياسياً. لكن «النخب» الساعية للحكم لا ترى في الأمر سوى أموال المودعين، و«النخب» الحاكمة لا تبحث إلا عن حماية المصارف ومصرف لبنان. حالياً الانقسام بين حزبَي المصرف، والمودعين فيما النخب تبقى أسيرة البحث عن السلطة.