غياب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي، ومعه تقديم إجابات للناس عن الصمود في وجه أزمة عميقة، ما كان ليُطرح كإشكالية لو لم نكن في بلدٍ اتّصف بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الحادّ، والوضع الجيوبوليتيكي الصعب، والعقد الاجتماعي غير الملائم، واشتعلت فيه انتفاضة تلاها انهيار مفاعيله متواصلة منذ أكثر من عامين. و«هنا الخيبة» يقول الكاتب والأستاذ في معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف وسام سعادة. يعتقد أنّ هذا الغياب نابع من «عدم قدرة قوى الاعتراض على قراءة ما يجري من خارج مقاربة المدرسة النيوليبرالية للفساد بمعناه الضيّق، وحصر الفساد بمعايير النزاهة والكفاءة والشفافية. فهذه المدرسة تحذف من عقلها الهمّ الاقتصادي والاجتماعي، كما لو أنّ الحديث عن الفساد بمعناه الضيّق لوحده، يُغني عن النظر بجدية أكبر للمشكلة الاقتصادية والقضايا الاجتماعية؛ أي التفاوت الكبير على مستوى الثروة والمداخيل، وحظوظ العمل، والوصول إلى الخدمات الاجتماعية. والفساد بمعناه الأوسع يتخطّى الهدر، ليصبح منظومة اقتصاد سياسي كامل متكامل».خلف هذا المشهد، يتمرّن مرشحو قوى الاعتراض الناشئون في غالبيتهم من رحم المنظمات غير الحكومية، على اللعب في ميدان السياسة بذهنية «تنزع عن الأفراد قدرتهم على التفكير بإصلاح اجتماعي، وتحكم تحرّكهم بعنوانَي الفساد والحريات. هكذا تدرّبهم المنظمات على فهم مهمتهم، ورؤية القضايا ومناصرتها، ولذلك أعادوا أسباب الأزمة للفساد وسلاح حزب الله، ولم تجعلهم انتفاضة 17 تشرين ولا الانهيار يوسّعون منظارهم، على العكس عزّزوا نظرتهم».
بعد أكثر من 30 عاماً من نهاية الحرب الأهلية هناك فواتير اقتصادية ومالية، ما زالت تُدفع عبر تحميل فاتورة سوء إدارة المالية العامة للطبقتَين الوسطى والفقيرة. أمّا مقاربات القوى النخبوية الناشئة فتأتي «نتيجة المناخ الثقافي الذي أحاط بالاقتصاد والسياسات الحريرية التي حكمت البلد طيلة تلك الحقبة» بحسب الباحث والمفكّر جورج قرم. يجزم بأنّ «المعرفة الاقتصادية السليمة والصحيحة غير موجودة»، ويصف من دخل منهم الحلقة الانتخابية بـ«المأخوذ بمعركة غير موضوعة بأي أفقٍ جديّ، جلّها كلام انتخابي سطحي غافل عن أنّ لا نتائج من خارج خطة إصلاح الدولة وماليّتها العامة».
اللافت أيضاً، أنّ غالبية كبيرة من مرشّحي هذه القوى، تعتقد أنّ الثقة بالاقتصاد مشروطة بعامل الاستقرار السياسي والأمني فقط، وأنّ حلّ المسألة الاقتصادية والاجتماعية قائم على تصوّر نفسي مفاده أنّ الرساميل خرجت من لبنان بعد حالة هلعٍ أصابت النظام بسبب السلاح، أو بسبب توتّر علاقات لبنان مع الدول العربية، أو بسبب التخلّف عن دفع سندات اليوروبوند. في المقابل، تقدّم هذه القوى عودة الثقة بالاقتصاد باعتبارها سلوكاً يتعلق بتخفيف الهلع عبر صندوق النقد الدولي أو عبر أجواء ومناخات أخرى دولية تجذب الاستثمارات. هذا ما يراه سعادة «كارثي». فاختزال فهم الاقتصاد بالتصوّرات النفسية، رغم أهمية صيت أي بلد كعامل لجذب الاستثمارات «لا يغيّر نسق الاقتصاد ولا شكل إنتاجه». أبعد من ذلك يُشير الوزير السابق جورج قرم إلى أن «لبنان دولة حاجز»، سواء سابقاً «بين الانتدابين الفرنسي والإنكليزي» أو حالياً «بين بلدين إسلاميّين يتصارعان: السعودية وإيران». لذا يعتقد أنه ليس هناك تفكير سليم «حول تاريخه وهويّته ليكون هناك تفكير في اقتصاده». يستعيد قرم، رؤية رفيق الحريري التي بناها على قناعة تامة بأنّ «السلام مع إسرائيل قادم من دون تأخير، ما دفعه إلى توقيع اتفاقيات تبادل حرّ، ظناً منه أنّ ذلك ينقذ البلد ويعوّم اقتصاده»، ويخلص إلى ضرورة «إعادة بناء الاقتصاد وفق رؤية مختلفة، وهو ما يغيب عن بال النُّخب الناشئة».
قرم: تغييب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي وتجهيل الناس ليس صدفةً


نقابات المهن الحرة وتحديداً الأطباء والمهندسون ونوادي الجامعات، تعدّ الملعب الحقيقي للنخب. ففيه تستفيد من شعاراتها التي تستحوذ على قيمة تداولية بما أن لا صراعاً طبقياً يُخاض بل قيمة اجتماعية تجمعهم. أما خوض السباق الانتخابي فأشبه بالفتوحات في أراضٍ غيّبت عن معظمها، ومرتكزة في ذلك على أيامٍ عجيبة نسبةً إلى الواقع اللبناني اختبروها في انتفاضة 17 تشرين، لجهة امتداد التحرّكات الشعبية جغرافياً وتالياً طائفياً، فضلاً عن تفاعل الفئات العمرية كافة والقطاعات معها. والغالبية اليوم مستمرة في استثمار «17 تشرين» بحديثها عن التحامها بالناس وعن شرعيةٍ تستمدّها من الانتفاضة. هي تحصر ترشّحها للانتخابات بالانبثاق من هذه الشرعية تحديداً، في حين أن التفاعل الشعبي آنذاك لم يدم إلا لفترة قصيرة. وبرامج قوى الاعتراض اليوم في مختلف الدوائر الانتخابية تشبه بعضها إلى حدٍ كبير بعموميّتها من دون تخصيص المناطق بقضايا أساسية مرتبطة بها. هذا المشهد «كاريكاتوري» وفق سعادة فـ«17 تشرين حدث مضى، حجمه محدود نظراً لاهتراء قنوات التفاوض الاجتماعي والنقابات أيضاً. أهميته أنه أحدث خبطةً قويةً للنظام، الذي لن يكسره شيء، خاصةً ما لم يكن للناس سند اجتماعي حقيقي يخوض معركة التوزيع العادل للخسائر». أما البرامج فأتت على هذا الشكل «لأنّ لا ارتباط للنخب المشكلة لمعظم قوى الاعتراض بالمجتمعات الأهلية رغم محاولتها فعل ذلك، ولا معرفة بخصوصياتها ما يصعّب مخاطبتها قبل شهرٍ من الانتخابات، على عكس الأحزاب اليسارية التي امتلكت تجربة شعبية قبل اضمحلالها».
لا يُمكن فهم كيفية خوض النخب تقليدية كانت أم ناشئة، للانتخابات من دون الأخذ في الاعتبار انتماءها وتعبيرها عن الطبقة الوسطى التي خسرت امتيازاتها، وسُرِقَت ودائعها وفقدت قيمة رواتبها. وفي حال فازت بمقاعد نيابية ستكون أولى تحدياتها خطة تعافٍ وصندوق نقدٍ وقوانين جمّة تطالها كما الطبقات الشعبية الكادحة التي تنعتها هذه النخب بعميلة النظام استناداً إلى فوز أحزابه بأصواتها. ما يقود قرم إلى القول: «تغييب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي وتجهيل الناس ليس صدفةً. وما الارتكاز بالكلام الانتخابي على شدّ العصب، إلا لمعرفة أنّه هكذا يتم تجيير الأصوات، أي عبر استمرار سلوك أحزاب السلطة التي لم تتنافس يوماً على البرامج». هنا مشكلة أخرى تعتري هذه الأجسام النخبوية «غير المدركة أن مصالحها ليست قائمة بذاتها، وخروجها من الإفقار لوحدها من دون الطبقات الشعبية غير ممكن، فضلاً عن عجزها عن مخاطبة برجوازية الطبقة الوسطى، وأن مناجاتها تصلح لحملات التبرع وليس عن طريق الذهاب إلى صندوقَي الاقتراع والنقد» يجزم سعادة.