كانت طرابلس يتيمة وحيدة أمس. لم تجد من يحمل معها نعوش ضحاياها، حتى نعوشها نخرها السوس وبانت مثقلة وهي تحمل فوقها جثمان شهيدة البحر الأمّ ضحى السماك، وعلى بُعد متر منها كان الوالد يحضن بين ذراعيه لفافة بيضاء طوى فيها فلذة روحه الطفلة تالين الحموي، يتناوب على حملها مع عمومتها وجدّها، يترك اللفافة ويتراجع خطوة إلى الوراء ليساعد في حمل نعش رفيقة حياته، كأنه في حيرة أيُوَلولُ على ضحى أم على تالين أم على البقية الباقية في قاع الأبد البارد؟عند القبر، وقف والد تالين مكسوراً يحملها بين يديه وعيناه على جثمان زوجته ضحى التي غرقت في الحفرة، ناشده الحضور تسليم جثمان تالين لدفنها، تردّد وأجهش وكأنه أراد الاحتفاظ به بين ضلوعه قبل أن يستسلم ويسلّم تالين لشقيقه قبل أن تختفي خلف لحدتين اسمنتيتين.
فقيرة كانت جنازة طرابلس، مئات الطرابلسيين البسطاء مشوا وحدهم من دون أي وجيه أو زعيم رغم كثرة المرشحين للانتخابات، القدامى منهم والجدد، ركضوا خلف النعشين في أحياء آيلة للموت إن لم يكن غرقاً، ففقراً على الأكيد. حتى المحال لم تقفل وبسطات الخضر والفاكهة داوم أصحابها كالمعتاد، هنا صار الموت عادة غير موحشة، هنا ذوّب الفقر والحرمان والاستغلال مشاعر الحزن واللوعة في صدور الناس.
شبّان حملوا بنادقهم ورشّوا برصاصها صوب السماء. عناصر الجيش كانوا هناك، لكنهم كمن أغمض عينيه وسدّ أذنيه وكمّ فاهَه، بدوا عاجزين عن منع المظاهر المسلحة، وما أكثرها! لقد هزُل الجيش مع هزال الدولة، وبات أقرب الى الناس منه الى القيادة بعدما وحّده الانهيار مع ناسه وألغى كل تمايزاته السابقة. بدون أقنعة، مرّ شباب طرابلس بكلاشنكوفاتهم أمام ملالات الجيش وارتدّ رصاصهم الفارغ على جسمها الفولاذي، وناحَ الجنود برؤوسهم خوفاً وناحوا بعيونهم ربما خجلاً بما فعل الجنرالات منهم.
أمس في عيون الطرابلسيين كانت الكراهية تلمع، الكره لكلّ شيء، وحتى الذات أيضاً، لم يبق لهؤلاء الفقراء أيّ أمل فصاروا يستسهلون الموت، لم يعد الانتحار البطيء يشفي غليلهم فسارعوا صوب البحر وهم يعلمون أن حتفاً ما ينتظرهم إن لم يكن في المياه الإقليمية فخلفها بقليل عند شواطئ اليونان.
على شرفات باب التبانة لم تستطع النسوة المتشحات بالأسود أن تطلّ لوداع الشهيدتين مخافة الإصابة بزخات الرصاص، بكينَ دموعاً على الغرقى وربما على أنفسهن وعلى عيالهن، لأنهن لن يجدن في البلد مأوى، وحلم الهجرة بالمركب احتلّ كل مخيّلات الطرابلسيين، ولن يثنيهم عن ركوبه غرق مركب وموت العشرات من جيرانهم، فالدور عليهم غداً وإنّ غداً لقريب.
ووريت الأم وطفلتها في القبر، أفرغ المسلّحون مماشط رصاصهم في الهواء من دون مبالاة باحتمال سقوطه على رؤوس محبيهم، حتى الحب هنا تغيّرت تعبيراته، وقف الشيخ سالم الرافعي يخطب بالناس «نثق بك يا قائد الجيش جوزف عون، ولا حرج إن كان ضابط ما أخطأ فلا تحملوا المسؤولية، أعينونا على أن نكون سنداً للجيش من خلال تحقيق شفاف». وسرعان ما يردّ عليه الشباب المتحلّق بغضب «أغرقوا الزورق عن عمد» لتعلو بعدها صيحات التكبير ويتفرّق الحضور في الأحياء، وكذلك صوت الرصاص ليختفي تدريجياً، ربما استعداداً لفاجعة أخرى في بلاد صارت ولّادة فواجع.