درجت العادة أن تستغلّ الحكومات أيام ولايتها الأخيرة للقيام بكل «التهريبات» التي عجزت عنها سابقاً. مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التهريبات ستكون مؤذية جداً، إذ إنها تستسهل مدّ اليد على مخزون لبنان بالعملات الأجنبية، ولا سيما مبلغ الـ 1.1 مليار دولار التي حصل عليها لبنان في أيلول الماضي من حصّته في حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي. فقد تبيّن في جلسة مجلس الوزراء الماضية، أن وزير المالية يوسف الخليل قرّر إنفاق بعض هذه الأموال على اشتراكات في مؤسسات ومنظمات دولية، فيما تقف الدولة بكاملها أمام أسابيع من النقاش لاستعمال 15 مليون دولار ثمن استيراد القمح، أو حتى استيراد لوازم طباعة الباسبورات، أو الوقود...عندما تسلّم لبنان أموال حقوق السحب الخاصة، استعجل تحويلها من عملة الصندوق إلى سيولة بالدولار الأميركي قابلة للاستعمال. يومها، استنفرت القوى السياسية للمزايدة على بعضها بعضاً، مرة من أجل اقتراح استعمال هذه الأموال للكهرباء أو للدعم، أو للبطاقة التمويلية، ومرة من أجل المطالبة بضرورة عدم المسّ بهذه الأموال خارج إطار لجنة خاصة للبحث في سبل استثمارها وتوظيفها ضمن خطة إنتاجية لتحفيز القطاعات. لم ترسم أي خطّة، بل بدأ العمل على الإنفاق خارج الأطر التي حدّدت سابقاً، إذ بدأت عملية تبديد الدولارات: 13 مليون دولار للأدوية المستعصية، 15 مليون دولار مبالغ مستحقة عن شهرَيْ شباط وآذار لقاء كميات من القمح والطحين، 60 مليون دولار سلفة للكهرباء، 6 ملايين دولار لإزالة مواد كيميائية من منشآت النفط في طرابلس بواسطة شركة «كومبي ليفت» الألمانية ومن دون أيّ مناقصة.
ولم يكتف وزير المالية بهذا الأمر، بل عرض على مجلس الوزراء تسديد 220 مليون دولار من أموال حقوق السحب لقاء استحقاقات على لبنان تجاه الخارج غير مدفوعة لغاية 31/3/2022، ومعظمها عبارة عن اشتراكات في مؤسّسات وصناديق عربية ودولية، أي ما يعادل 20% من قيمة الحقوق البالغة 1.139 مليار دولار. هذا الأمر أثار حفيظة بعض الوزراء، ولا سيما أن جزءاً كبيراً من هذه المؤسّسات والصناديق لم يعد يدفع للبنان كالسابق منذ عامين أو أكثر، فيما الجهات هي نفسها سبق لها أن أشارت إلى إساءة استخدام تلك القروض وعدم تنفيذها وهدر أموالها.
وبحسب وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية، فإن اعتراضه على هذا الطرح، خلال الجلسة الأخيرة، جاء على خلفية أن «أيّ إنفاق ولو دولار واحد من أموال الحقوق يجب أن يتم وفق دراسة جدوى لمعرفة منافعه وماذا يفيد الدولة والشعب. وأيضاً يفترض أن يحتوي على تفاصيل للإجابة عن كيفية الإنفاق ولمصلحة أيّ جهة والهدف من ورائه». ويضيف حمية لـ«الأخبار» إنه طلب «مع بعض الزملاء جدولاً مفصّلاً يفنّد كل حالة بحالتها، وليس مجرد تعداد لأسماء الصناديق والمنظمات وقيمة المبلغ المستحق كما حصل. وقد أكد رئيس الحكومة أن أي مبلغ سيُدفع سيكون بموافقة الحكومة وملحقاً بالتفاصيل لكل حالة بحالتها». ذلك «لا يعني أننا ضد الانفتاح على كل دول العالم والتعامل مع هذه الصناديق، لكن حقنا الاطلاع على المبالغ المالية المستحقة على الدولة وكيفية صرفها، لا أن تجمع في سلة واحدة ويقال لنا إنها حاجة ملحة وقبل التفاوض مع الجهات كافة لمحاولة خفض هذه المبالغ أو حتى إعادة جدولتها وغربلة الاشتراكات التي يجب إبقاؤها وتلك التي يمكن التخلي عنها».
هل دفع المستحقات والاشتراكات أولوية في ظل الانهيار الاقتصادي وغياب أي شبكة للأمان الاجتماعي؟


خلال جلسة مجلس الوزراء، الأسبوع الماضي ، أخرج وزير المالية جدولاً تحت عنوان استحقاقات القروض الخارجية مؤلفاً من 17 اسماً للجهات المستفيدة مع ذكر المبلغ المستحق بجانب كلّ اسم وتاريخ الاستحقاق. فعلى سبيل المثال، ثمة 6 ملايين و580 ألف دولار مستحقة على لبنان للبنك الدولي و«أوبك» و352 مليون دولار للبنك الياباني، ومبالغ أخرى للصندوق السعودي للتنمية والصندوق الإماراتي والعربي وغيرها. ولم يتكلف الوزير عناء تقديم أجوبة عن الأسئلة التي طرحت عليه، بل أراد الحصول على الموافقة بدفع 220 مليون دولار من حقوق السحب من دون الدخول في التفاصيل. وبحسب المعلومات، عندما سأله لاحقاً رئيس الحكومة عن عدم تقديمه لائحة مفصلة، برّر الأمر بأنه لم يتمكن من طلب الكلام لتفنيد تلك المعلومات أمام الوزراء!
وحتى مساء أمس، لم يكن وزير المالية قد أرسل الى رئاسة الحكومة أي قائمة تفصيلية لوضعها على جدول أعمال الجلسة المقبلة. المشكلة الرئيسية هنا أن أموال حقوق السحب المودعة في حساب وزارة المالية في مصرف لبنان لم تدرج ضمن أيّ استراتيجية للاستفادة منها، بالإضافة الى عدم تحديد الجهات المخوّلة إدارة المخزون الاستراتيجي بالعملات الأجنبية. ففيما يتفرّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة باستخدام الاحتياطي بالعملات الأجنبية في المصرف المركزي، لا تزال أموال صندوق النقد تخضع للعشوائية ويجري تبديدها بالطريقة نفسها التي جرى على أساسها صرف نحو 20 مليار دولار من الاحتياطي في العامين الماضيين، علماً بأن العديد من الوزراء طلبوا مراراً معرفة قيمة الدولارات المتبقية في الاحتياطي الإلزامي واحتياطي الموازنة وأموال حقوق السحب، من دون أن يتلقّوا أي جواب. وثمة مجموعة من الأسئلة يفترض طرحها في هذا الصدد حول عدم تمويل الأدوية والقمح والطحين وغيره من الاحتياطي ومن اتخذ قرار المسّ بوحدات حقوق السحب. وهل دفع المستحقات والاشتراكات اليوم أولوية في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وغياب أي شبكة للأمان الاجتماعي. من الذي يقرر أين تُدفع هذه الأموال وكيف؟ مع العلم بأن معظم المسؤولين استنفروا واستنكروا عند طرح استخدام جزء من هذه الأموال لمصلحة البطاقة التمويلية وشبكة النقل العام، لكنهم اليوم يلتزمون الصمت أمام صرفها على اشتراكات لم تعد صالحة وقروض توقف مقرضوها عن دعم لبنان بقرار سياسي. وبالتالي، هل الهدف تبديد مليار دولار إضافي على تنفيعات وصفقات وسمسرات قبيل الخروج من السلطة؟