200 ألف ليرة هي كلّ ما استردّته رولا من فرع المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بدل فاتورة أدويتها «المليونية». 200 ألف ليرة هي بدل تسعة أشهر من الانتظار وأربعة مشاوير إلى مبنى الصندوق انتهت بتحصيل مبلغ بالكاد صار يساوي 20% من قيمة ما دفعته وتدفعه لشراء أدوية مرضها المزمن التي ارتفعت أسعارها أربعة أضعاف، مع خروجها التدريجي من لوائح الدعم. «السوريالية» هنا ليست في كلفة المشاوير التي فاقت المبلغ المرصود، وإنّما في استلامها ذلك المبلغ بشيك مصرفي يفرض عليها رحلات أخرى إلى المصرف. من هنا، كانت تلك المئتين هي آخر المبالغ التي قبضتها رولا، والتي اتّخذت من بعدها القرار بقطع العلاقة مع الصندوق، بعدما باتت «أجرة الطريق أكبر بكثير ممّا استردّته من الضمان». هذه العلاقة المنتهية مع الضمان لم تقتصر على رولا، فثمة كثر اليوم اختاروا سلوك الدرب نفسها بعدما لم تعد «باقة» التقديمات الاجتماعية، وخصوصاً بدلات فواتير الأدوية ومعاينات الأطباء «تعوّض شيئاً» بحسب سمر، التي انقطعت عن تقديم فواتير أدويتها منذ ما يقرب من عامٍ تقريباً. لا تذكر الشابة المرة الأخيرة التي قصدت فيها «مركز الضمان»، ولكنها تذكر جيداً المبلغ الذي استردّته: 16 ألف ليرة. وهو ما لم يعد يساوي «فتحة باب الفان»، تقول ساخرة. ومثلها فعل علي الذي تتراكم في جيبه فواتير أدوية بقيمة ثلاثة ملايين ليرة يعرف بأنه لن يُرجع منها إلا النذر القليل.
منذ ما يقرب العام تقريباً، لم تعد فروع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقصداً لكثيرين. قلّما تجد أحداً عند نافذتَي تقديم فواتير الأدوية ـ الإفرادي والمؤسسات ـ حيث بات الفارق فاضحاً بين ما يدفعه المضمون لقاء أدويته التي تخضع اليوم لمؤشّر الأسعار الذي تحدّده وزارة الصحة العامة والذي يتعدّل صعوداً «كلما دعت الحاجة» وبين ما يستردّه من الصندوق من بدلاتٍ لا تزال تُدفع على أساس تسعيرة جدول الأدوية الجاهزة القابلة للتسديد والمحدّد حتى اللحظة بالأسعار السابقة لما قبل الأزمة ومؤشراتها. وما بين تلك المؤشرات وجدول الضمان اليوم فوارق شاسعة قد تُقاس بمئات آلاف الليرات في الدواء الواحد أحياناً، ولا سيما أدوية الأمراض المزمنة.

استرداد 20% من الكلفة
ثمة الكثير قد يروى عن المرضى الذين تقاعدوا بملء إرادتهم عن تحصيل حقوقهم من فرع المرض والأمومة. وقد تكون الصورة الأوضح الطوابير التي اختفت من أمام شبابيك تقديم فواتير الأدوية وبدلات معاينة الأطباء والفحوص المخبرية، سواء تلك المخصّصة للأفراد أو المؤسسات التي يُشير مندوبو بعضها إلى التراجع الكبير في أعداد الجداول التي يقدّمونها إلى الضمان. وفي هذا السياق، يُشير أحد هؤلاء، غسان حجازي، إلى أنّ أعداد الاستمارات اليوم في الجدول لم تعد ثابتة شهرياً، أضف إلى أنها خفّت كثيراً، ففي الوقت الذي كان فيه الجدول يعدّ مئة استمارة وما تحمله كل استمارة من أعداد قد تصل إلى حدود الألف وأكثر بالنسبة للمؤسسات الكبيرة، بات بالإمكان عدّ هذه الأخيرة على أصابع اليد. إلى هذا الحدّ، بلغ الشحّ. ولهذا سببان، أولهما أن القيمة التي يردّها فرع المرض والأمومة لقاء فواتير الأدوية لم تعد كافية، حيث تنعكس الآية هنا، إذ بدلاً من أن يستعيد المضمون 80% من قيمة تلك الفواتير، انقلبت النسبة وبات ما يسترده المضمون 20% في أحسن الأحوال بعدما لحق الدواء زيادات متكرّرة في الأسعار مقابل جدول الأسعار الثابت لأدوية الضمان. والأمر نفسه لاحق بمعاينات الأطباء وبدلات الفحوص المخبرية التي ارتفعت هي الأخرى من دون أن تتحرك أسعارها لدى الضمان. وهذا من دون الحديث عن فواتير الاستشفاء التي جعلت الدخول إلى المستشفيات اليوم حكراً على المقتدرين والأغنياء دون سواهم. أما ثاني الأسباب، فهو التأخّر في الحصول على الأموال من الصندوق، ويُشير بعض المندوبين هنا إلى أنّ ثمة متأخرات لبعض المؤسسات تصل إلى حدود 5 سنوات و10 سنوات. وتردّ مصادر الصندوق هذا الأمر إلى «النقص الكبير بالموظفين بسبب الغياب أو الشغور»، على ما يقول المدير المالي في الصندوق، شوقي بو ناصيف، من دون التقليل من أهمية ما يجري. فبحسب الأخير، ثمة «مشكلة» ليس الضمان سببها، وإنما الدولة وما يتبع، فثمة «أموال للضمان لا تدفع وهي في ذمة الدولة، إضافة إلى تقاعس الأخيرة عن حماية الضمان والمضمونين». وكان ثمة نية في مشروع الموازنة الأخير بشطب 3 آلاف مليار من ديون الدولة للضمان، ولما لم يحصل الإجماع حول تلك النية، كان القرار بتجديد قرارٍ سابق يقضي بتقسيط الديون (وتقدّر بحوالى 5 آلاف مليار)، على أنّ المدة لم تحسم اليوم ما إذا كانت 5 سنوات أو 10 سنوات.

من الصندوق إلى الوزارة
لكلّ تلك الأسباب، تراجع اهتمام الناس بخدمات الصندوق. وهناك أرقام رسمية تفيد بأنّ «نسبة ترك الناس للضمان ارتفعت في الآونة الأخيرة»، على ما تقول المصادر في الضمان، مشيرة إلى «80 ألف طلب نهاية خدمة مبكر تقدّم بها مضمونون خلال عام 2021، وغالباً ما تقدّم على أنها استقالة كي لا يحالوا إلى التفتيش». وهذا الإجراء، بحسب مصادر الضمان «هي لترك الضمان والتحوّل نحو وزارة الصحة العامة للتخفيف من كلفة الخدمات الصحية المرهقة». لهذا، لم تعد مشاهد الطوابير التي خفّت أمام فروع الصندوق هي ما يدلّل على الواقع الجديد، إذ يمكن الركون إلى الأرقام هنا لتبيان مدى التراجع في «لهفة» الناس لردّ جزء من قيمة فواتيرهم. وفي هذا الإطار، وسنداً للتقارير السنوية الصادرة عن مديرية التفتيش الإداري في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فإن نسبة التراجع بلغت 50% ويزيد. وفي مقارنة بين السنة الماضية والسنوات الأربع التي سبقتها، بدا المشهد واضحاً، إذ في الوقت الذي بلغت فيه أعداد الاستمارات المستلمة من قبل المضمونين على التوالي 4.7% عام 2017 و4.8% عام 2018 و4.3% عام 2019، تراجعت النسبة عام 2020 إلى 3.3% لتبلغ عام 2021، 2.3%. وهي مرشحة للتراجع أكثر مع بقاء الواقع على حاله.

«ديون» المرض والأمومة
عملياً، يعد فرع المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي هو الفرع الأساس. وبالنسبة لأهل الضمان «الضمان هو فرع المرض والأمومة». إلى هذا الحد هذا الفرع أساسي، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مليوناً و400 ألف مواطن يستفيدون من تقديماته الاجتماعية. اليوم، يواجه هذا الفرع معركة خاسرة، فهو فرع «مديون» بالكاد يقدر على تغطية نفقات منتسبيه. ولذلك لا قدرة لإدارة الصندوق على إعادة دوزنة أسعار الأدوية في جدول الأدوية الجاهزة المعدّة للتسديد على غرار ما يجري في الصناديق الضامنة الأخرى، ومنها وزارة الصحة العامة، إذ لا ميزانية قادرة على التغطية.
80 ألف طلب نهاية خدمة مبكر تقدّم بها المضمونون عام 2021


يقابل هذا الواقع المأزوم ما فعلته الأزمة الاقتصادية أخيراً لناحية إقفال مؤسسات كثيرة وفقدان الضمان هذا الشق من الاشتراكات مقابل تلكؤ مؤسسات أخرى في التسديد والتحايل على القانون الذي تمارسه مؤسسات أخرى عمدت إلى زيادة رواتب موظفيها بقنوات غير رسمية، كاعتبار النسبة المضافة إلى الراتب كمساعدة أو «BONUS» لا تدخل في أساس الراتب الذي يفرض حتماً رفع قيمة الاشتراكات للصندوق. لكلّ تلك الأسباب، سيبقى الواقع كما هو وسيدفع المضمونون بدل صحتهم من جيوبهم برغم ما يدفعونه من اشتراكات.

لجنة المؤشّر
اليوم، هناك رأيان متناقضان في ما قد يفعله الصندوق لإنصاف المضمونين، الرأي الأول منحاز بالمطلق إلى جانب المضمونين، إذ يفرض على الضمان «الالتزام بالمادة 17 من قانون الضمان نفسه والتي تفنّد التقديمات من جهة وتوجب من الجهة الأخرى التزام الأخير بالأسعار التي تحدّدها وزارة الصحة، على اعتبار أنها هي من تضع الأسعار لا الضمان من يقرر»، بحسب بعض أعضاء مجلس الإدارة في الصندوق.أما الرأي الآخر، فمناقض للأول، لناحية أن الضمان «لا يلزم إلا بجدول الأسعار الجاهزة والذي تتحدّد أسعاره بناء على رأي مسند من لجنة الأدوية التي يشكلها»، وأن أي تعديل بهذه الأسعار «يفترض صدور قرار بذلك عن مجلس الإدارة مجتمعاً، وهو ما ليس ممكناً اليوم»، على ما تقول المصادر. ولذلك، فإنّ التعديل في الجدول يفترض، بحسب هؤلاء، البحث عن مصادر أخرى. والعين اليوم على لجنة المؤشر، وما قد تأتيه من منافع في ما يخصّ زيادة الاشتراكات. ولكن، كل تلك الحلول لا تعوّض الإذلال الذي يواجهه المضمون لا في الصيدليات ولا في عيادات الأطباء ولا في المستشفيات التي بات المضمونون خارج حساباتها.