في العصر الوسيط، كتب القديس أوغسطين كتابه الشهير «مدينة الرب»، دفاعاً عن المسيحية، تحدث فيه عن مجتمع بني على الحب، وجعل من مدينة الرب جنة على الأرض. في منتصف القرن العشرين، أطلقت الحكومة البرازيلية اسم «مدينة الرب» على ضاحية يسكنها فقراء ومشرّدون قرب مدينة ريو دي جانيرو. والاسم نفسه حملته رواية ألّفها الكاتب البرازيلي بولو لينس، تضمّنت قصصاً حقيقية عن هذه المدينة. كبشر، علينا دائماً الاختيار بين الخير والشر. لكن، في بعض الأماكن، يختلف هذا المفهوم.

في «مدينة الرب»، للمخرجين البرازيليين فيرناندو ميرييس وكاتيا لوند، الشرّ هو شيء لا يمكن تخيّله، والخير هو ألا تتعاطى الكثير من المخدرات، ألا تتسول، ألا تقتل أحداً من دون سبب، وأن تسرق ما هو ضروري فقط. رغم ذلك، سيكون من الصعب جداَ عليك البقاء على قيد الحياة في عشوائيات البرازيل.
واقعُ حقيقي ونصّ مبتكر وحجج مثيرة للاهتمام وتطور مثالي للشخصيات… أنتجت تحفة سينمائية تعكس واقع ملايين الأطفال والشبان ممن يستيقظون يومياً على حياة قاسية لا تعرف الرحمة. يتضمّن الفيلم حقائق أكثر مما تتضمّنه أي نشرة أخبار أو تقرير صحافي منافق تُذرف فيه الدموع سرداً للبؤس والرعب السائدَين في بعض مناطق العالم.
سلطت السينما الضوء على قضايا متعددة الأوجه للمتسولين من خلال العديد من الأفلام، بعضها استُوحي من قصص حقيقية، وأخرى تعالج مفهوم التسول والفقر مثل «مدينة الرب»، وثالثة تناولت موضوعات الاتجار بالأطفال وخطفهم لإجبارهم على التورط مع عصابات التسول أو لسرقة الأعضاء، ناهيك عن أفلام صوّرت المتسولين كشخصيات كوميدية.
التسول مسألة معقدة ومن يعانون من الفقر المدقع أمام خيارات متطرفة قد يجبرون عليها لعدم وجود سقف يؤويهم أو ما يسدّ رمقهم

كما أُنتجت وثائقيات كثيرة تبحث بعمق في أسباب التسول، وهل هو مجرد وظيفة كأي وظيفة أخرى، ولماذا يحتاج الشخص إلى التسول في هذا العصر، وهل يمكن أن نتقبل التسول في مجتمعاتنا بحيث يصبح المتسولون والمتصدّقون راضين… إلى أسئلة كثيرة أخرى يمكن طرحها عن الفقر والتسول، قد تكون السينما أو الوثائقيات قادرة على تقديم بعض الإجابات عنها.





مشرّدون وهميون


يطرح وثائقي «بي. بي. سي» بعنوان «مشردون وهميون: من يتسوّل في الشوارع» (Fake Homeless: Who’s Begging on the Streets) إشكالية المشرّدين الوهميين البريطانيين. في الأعوام الثلاثة الماضية، سجل عدد الأشخاص الذين ينامون في العراء في أنكلترا رقماً قياسياً بزيادة قدرها 73%. بحسب البيانات الحكومية، بات نحو 5000 شخص في الشوارع كل ليلة في خريف 2017، وهو ضعف الأرقام المسجّلة منذ عام 2010. لكن هناك مزاعم بأن المملكة المتحدة تواجه ظاهرة «التشرد المزيف». فهؤلاء المتسولون لديهم منازل يخرجون منها للتسول والنوم في الشوارع. وتُظهر سجلات الشرطة أن 80% من المتسولين لديهم «نوع من المنزل» يذهبون إليه. في مقاطعة كامبريدجشير، تحتجز الشرطة المتسولين، وفي مدينة ديڤون، تلتقط اشلي صوراً لبعضهم عندما يعودون إلى بيوتهم وتواجههم. تؤكد آشلي انها نجحت في خفض عدد المشردين في المدينة من 23 إلى 6 فقط، بعد طرد المزيفين. بينما تجادل جمعيات خيرية بأن بعض المشردين يمكن أن تكون لديهم منازل، لكن حياتهم المعقدة والفوضوية تؤدي بهم للتسول في الشوارع، فيما يدعو آخرون إلى التوقف عن شيطنة المشردين. إذً، ما هي الحقيقة؟


أليس في بلاد المتسولين «العظمى»


عام 2011، نشرت قناة «بي. بي. سي» وثائقياً بعنوان «أطفال بريطانيا المتسولون» (Britain’s Child Beggars)، حول مشكلة الاتجار بالأطفال وإجبارهم على التسول. في الوثائقي، نقابل أليس، وهي طفلة في الرابعة تجوب شارع أوكسفورد في وسط لندن وتتسوّل لساعات. أليس ليست الوحيدة التي تطلب المال طوال النهار، وتستعمل صندوق الهاتف كمرحاض، وتبحث عن الطعام في النفايات، وتكسب مئات الجنيهات الاسترلينية يومياً. يتبع وثائقي المخرج جون سويني أليس واصدقاءها آخر الليل إلى مناطق فخمة، حيث يقطن رجال عصابات تجبر الأطفال على التسول، ليكتشف أن هذه العصابات عابرة للقارات بدءاً من رومانيا!
على مدى عام، تبين أن كل الأطفال المتسولين الذين يعملون في شوارع لندن هم من الغجر الرومانيين (أكبر أقلية عرقية في أوروبا والأكثر فقراً، وتنتشر العنصرية ضدهم في رومانيا وأنحاء أوروبا). ورغم ارتداء بعض الفتيات المتسولات الحجاب وملابس محتشمة وجعل المساجد والمناطق التي يرتادها السياح الخليجيون هدفاً لهن، إلا أن أياً منهن لم تكن مسلمة.
السلطات البريطانية لا تفعل ما يكفي ولا الحكومة الرومانية أيضاً. غالباً ما يوقف عناصر الشرطة البريطانية هؤلاء الأطفال، لكن في العادة تؤخذ منهم معلومات ويُتركون لحالهم، لأن الهدف هو العصابات التي تقف وراءهم. المشكلة متشعّبة إلى حد كبير كما يوضح الوثائقي. هناك المئات - إن لم يكن الآلاف - من الاطفال الذين يضطرون إلى التسوّل بمجرد تمكنهم من المشي، لأن أهلهم لا يستطيعون العمل كونهم مهاجرين غير شرعيين. المشكلة الأساس تكمن في قوانين العمل والهجرة في المملكة المتحدة. قوانين تستفيد منها عصابات ترسل الأطفال إلى الشوارع في تجارة تدرّ عليها مالاً أكثر مما يمكن أن تجنيه من أي عمل آخر.


باكستان: ليس الأمر كما لو أننا نسرق


وفقاً لتقرير التنمية البشرية، يعيش نحو نصف سكان باكستان تحت خط الفقر. يؤدّي ذلك الى انتشار متزايد لظاهرة المتسولين، من مختلف الأعمار والأجناس بمن فيهم ذوو الاعاقة والمتحولون جنسيًا. يصعب التأكد من الأرقام الدقيقة للمتسولين، بسبب طبيعتهم المتجولة ولارتباط كثيرين منهم بشبكات غير قانونية.
«حتى لو كنا نتسول، فليس الأمر كما لو أننا نسرق»، يقول رجل عاري الصدر يجلس في زاوية شارع مزدحم. بهذه الجملة يبدأ وثائقي المخرج شيبا سعيد، «المتسولون في لاهور» (Beggars of Lahore). يندمج الفيلم في كثير من المشاهد والمقابلات مع متسولين، ويطرح العديد من الأسئلة: لماذا يتسول الناس؟ ما دور الدين والدولة في تشجيع التسول أو لجمه؟ لماذا يزيد التسول في شوارع لاهور؟
الإجابات المرئية التي يقدمها الوثائقي مؤلمة ومفتوحة، ما يجعلنا نشعر بأن هناك هرباً من النظر بشكل أعمق في الأسباب الكامنة وراء التسول أو لإيجاد حلول لهذه المشكلة العالمية. من الواضح أن التسول مسألة معقدة ومتضاربة. لكل متسوّل قصة يرويها، وكلهم خرجوا إلى الشارع كملاذ أخير. يتعين على من يعانون من الفقر المدقع اتخاذ خيارات متطرفة أو يجبرون على اتخاذها لعدم وجود سقف يؤويهم أو وجبة يومية تسدّ رمقهم. أثناء مشاهدة الوثائقي، يتضح لنا أنه يجب التحدث عن الفقر والتسول بقدر كبير من المسؤولية. بدلاً من شيطنة المتسولين، نحتاج إلى مساعدتهم، والتأكد من حصولهم على المساعدة التي يحتاجونها من الوكالات الحكومية وغير الحكومية ليتوقفوا عن الاعتماد على شبكات المافيا.


بهلوانيو الصين: لسنا متسوّلين


هل فنانو الشوارع في الصين متسولون؟ يصور وثائقي « لسنا متسولين» (We Are Not Beggars) للمخرج الصيني وين جي كين حياة فناني الشوارع في المدن الصينية. يتجوّل هؤلاء الأطفال في البلاد كفنانين ينبذهم معظم الصينيين. تتبعهم الكاميرا في الشوارع، يؤدون الحيل البهلوانية ويتسولون ويصارعون من أجل البقاء ويحلمون بالعودة إلى المنزل والذهاب إلى المدرسة. من بين عازفي وبهلوانيي الشوارع هؤلاء، نانا واخوتها السبعة، أكبرهم يبلغ من العمر 14 عاماً وأصغرهم في سن السابعة، رغم سياسة الطفل الواحد التي تفرضها الصين. يتجول الأخوة في شوارع مدن مجهولة، ويؤدون بشجاعة استعراضات أمام مئات الأشخاص من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل؛ يتحمّلون الجوع ويأكلون من بقايا ما ترميه المطاعم، وينتقون من النفايات بسعادة ملابس رماها أصحابها. يرصد الوثائقي آراء مواطنين وهم يشاهدون أداء هؤلاء الأطفال. يرى بعضهم أنه «ينبغي حظر هذا النوع من الأداء لأنه قاس للغاية»، فيما يرحب به آخرون لا يرون فيه تسولاًًً بل عمل وطريقة عيش.