كانت خطّة قوى السلطة ألّا تقدّم لعمال لبنان سوى «مكرمة» تسمّى «مساعدة اجتماعية» بدلاً من تصحيح أجورهم وتعويضاتهم بشكل لائق يراعي تضخّم الأسعار وتدهور القوّة الشرائية. لكن عجزها دفعها إلى قضم حقوق العاملين في القطاع العام بشكل سافر، ومنح أجراء القطاع الخاص زيادة «غلاء معيشة» مقطوعة يصرّح عنها للضمان وتحتسب ضمن تعويض نهاية الخدمة
العزم المزيّف
في بيانها الوزاري، تعهدت حكومة ميقاتي بالآتي: «العزم على تصحيح الرواتب والأجور في القطاع العام بمُسمّياته كافة في ضوء دراسة تعدّها وزارة المالية تأخذ بالاعتبار الموارد المالية للدولة ووضعية المالية العامة. وبالتوازي تفعيل عمل لجنة المؤشّر وإجراء ما يلزم بهدف تصحيح الأجور في القطاع الخاص». عملياً، انتهت مزاعم حكومة ميقاتي بابتداع مفهوم جديد في مجال الأجر المدفوع هو «المساعدة الاجتماعية». بدأت هذه المساعدة الاجتماعية على شكل «منحة» تعوّض للعاملين في القطاع العام، مؤقتاً، بعضاً من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية على سير المرفق العام وكانت على شكل نصف راتب يُعطى عن شهرَي تشرين الثاني وكانون الأول 2021، «على ألّا تقل عن مليون ونصف مليون ليرة، وألّا تزيد على 3 ملايين ليرة، وأن تشمل المنحة الاجتماعية كل من يخدم المرفق العام في القطاع العام، من موظفين وأجراء ومستخدمين ومتعاقدين ومتقاعدين وعمال الفاتورة وسواهم» وفق ما جاء في بيان صادر عن المكتب الإعلامي للرئيس ميقاتي في 29 تشرين الثاني 2021.
بعدها، أصبحت هذه المنحة بديلاً من تصحيح الأجور، إذ جرى تضمينها في المادة 135 من مشروع قانون موازنة 2022 لتكون على شكل «مساعدة اجتماعية» بقيمة راتب شهري «من 1/1/2022 لغاية 31/12/2022، لجميع موظفي الإدارة العامة مهما كانت مسمياتهم (موظفي الإدارة، أجراء، أجهزة عسكرية، قضاة، السلك التعليمي، المتقاعدين) و50% من المعاش التقاعدي للمتقاعدين». لكن بسبب التأخّر في إقرار الموازنة، قرّر مجلس الوزراء في 10 شباط 2022 إعطاء العاملين في القطاع العام «مساعدة اجتماعية» قدرها نصف راتب شهر لغاية إقرار الموازنة لا تقلّ عن 1.5 مليون ليرة ولا تزيد على 3 ملايين ليرة.

انقر على الجدول لتكبيره

صدقية ميقاتي وفريقه الوزاري في ترجمة التزامات البيان الوزاري، أنعشت حظوظ زملائه من هيئات أصحاب العمل. فعندما دعا وزير العمل مصطفى بيرم لجنة المؤشّر إلى الانعقاد، أتى ممثلو أصحاب العمل والاتحاد العمالي العام متفقين على «مساعدة اجتماعية» لا تحتسب ضمن الرواتب التي يصرّح عنها للضمان الاجتماعي، أي لا تدخل في احتساب تعويضات نهاية الخدمة. وقد استبق أصحاب العمل الاجتماع الأول للجنة المؤشّر بعرض ورقة أمام وزير العمل تتضمن الفصل بين تعويضات نهاية الخدمة، بين نهاية عام 2020 وما يليه من سنوات. ثم انعقدت لجنة المؤشّر من دون أن يعرض فيها أي رقم صادر عن الجهات المختصة لتحديد تضخّم الأسعار، بل تمحور النقاش حول قيمة الزيادة المقطوعة وقيمة بدل النقل... كان المطلوب، بحسب المطلعين على تلك المرحلة «أيّ إنجاز سريع للحكومة. ولذلك أقرّ بدل النقل سريعاً، وكان المطلوب اتفاق سريع على الزيادة المقطوعة، إنما العقدة ظهرت في التصريح عنها للضمان الاجتماعي» يقول أحد المعنيين.
بعدها، استعان وزير العمل ببعض الخبراء الذين نصحوه بأنه لا يمكن السير بقضم حقوق العمال في تعويضات نهاية الخدمة، وبالموافقة على الزيادة المقطوعة للأجور من دون دراسة تضخّم الأسعار. قرّر الوزير دعوة المدير العام للضمان الاجتماعي محمد كركي. يومها جرى نقاش بين كركي ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا الشمّاس حول أصحاب العمل المتهرّبين من التصريح للضمان. كركي قال للشماس: نصف العمال مصرّح عنهم بأجور تقلّ عن مليون ليرة، وهذا أمر مشكوك فيه. فقال له الشماس: لماذا لا تقوم بعملك وتجبرهم على التصريح الحقيقي من دون أن تخلط بين من يصرّح فعلاً ومن يتهرّب؟ عملياً، انتهت الجلسة بلا شيء. عندها، أجرى رئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير بضعة استدعاءات إلى مكتبه للتفاوض على تصحيح للأجور يتضمن مشروعاً لتعديل قانون الضمان يأكل من حقوق العمال وتعويضاتهم. الضمان وافق على هذه الصيغة، والاتحاد العمالي العام أيضاً، لكن وزير العمل رفضها. تعقّدت الأمور، إلى أن خضع أصحاب العمل ووافقوا على زيادة مقطوعة تخضع تلقائياً للتصريح في الضمان بعد تلاوة تضخم الأسعار الفعلي في لجنة المؤشّر بمعدل 800% من أول 2019 لغاية نهاية 2021.

بدعة أم رشوة؟
من أين أتت بدعة «المساعدة الاجتماعية»؟ ما هي وظيفتها السياسية؟ فما حصل هو أن موظفي القطاع العام نالوا «مكرمة» تنطبق عليها مواصفات «الرشوة» التي تسبق الانتخابات، فلماذا سمّيت مساعدة اجتماعية؟ المساعدة الاجتماعية أو المنحة الاجتماعية هي مفهوم معمول به، لكنه يرتبط بأمر خاص بالأجراء واستثنائي، سواء كانوا في القطاع العام أو الخاص. فقد أتيح للأجراء الاستفادة من مساعدة ولادة، ومساعدة زواج، ومساعدة وفاة... باعتبار أن من حقوق الأجير مساعدته على تخطّي ظرف ما. قانونياً، لا تدخل الزيادة الناتجة من «المساعدة الاجتماعية» في صلب الراتب وتبقى خارج احتساب تعويضات نهاية الخدمة، كونها مساعدة ظرفية وعابرة بحسب مفهومها، لكن «تكرار صرفها بصورة مستمرة ومستقرّة يجعلها تعتبر، فقهاً واجتهاداً، كجزء من الراتب، ولذلك تداعيات على مستويين على الأقل: أولاً على تعويضات نهاية الخدمة أو المعاش التقاعدي، لأنها تدخل في احتساب هذا أو ذاك في حال دخلت صلب الراتب. وثانياً على المحسومات من ضمان وضريبة دخل...» وفق الوزير السابق والمحامي زياد بارود. فما نحن أمامه فعلياً، هو زيادة شهرية تتّصف بـ«الاستمرارية والثبات والشمول، ما يسقط عنها صفة المساعدة الاجتماعية رغم إصرار السلطة على تسميتها بذلك، لكي تتهرب من تحميل أرباب العمل كلفة تعويضات نهاية الخدمة وتجنّبهم مترتّبات تصحيح الأجور في انتقاص فاضح لحقوق الموظفين». وقد نُشر مرسوم المساعدة الاجتماعية في الجريدة الرسمية بتاريخ 3 آذار ورقمه 8838، ما يجعل إمكانية الطعن به أمام مجلس شورى الدولة قائمة. فبحسب بارود «الطعن ممكن ضمن مهلة شهرين من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية، شرط أن يكون الطاعن صاحب صفة ومصلحة يطبّق عليه المرسوم ومتضرّر منه، وأن يثبت أن المرسوم هو قرار نافذ وضار».
التمييز بين أجراء القطاع العام الذين حصلوا على «مساعدة اجتماعية» وأجراء القطاع الخاص الذين حصلوا على «غلاء معيشة»


في المقابل، حظي الأجراء في القطاع الخاص بزيادة هزيلة ومقطوعة للأجور مقابل الاحتفاظ بحقّهم في المطالبة بالمزيد ومن دون التنازل عن أي جزء من تعويضات نهاية الخدمة. فمن ملاحظات مجلس الشورى على مشروع المرسوم أن يعدّل اسمه ليكون: «تعيين بدل غلاء المعيشة للمستخدمين والعمال الخاضعين لقانون العمل»، وأن يكون مبنياً على المرسوم 7426 المتعلق بتعيين الحد الأدنى الرسمي للأجور ليصبح مليونَي ليرة، وان تكون الزيادة بقيمة مليون و325 ألف ليرة ضمن حدود الأجر الشهري البالغ 4 ملايين ليرة، أما ما فوق فيكون متروكاً للحرية التعاقدية بين صاحب العمل والعمال. ونصّ قرار مجلس الوزراء على أن يصرّح عن هذه الزيادة للضمان لتحقق تدفقات إضافية بقيمة 1100 مليار ليرة.