رتّب لي صديق حضور جلسة، من مقعد خلفي، لممثلين عن عائلات وجمعيات بيروتية كانوا يناقشون الموقف من الانتخابات النيابية. أحد مخاتير العاصمة كان يتحدث بصوت مرتفع، معبّراً عن غضب شديد على «القيادات التي تتركنا ولم تقم بأي شيء يحسّن أمورنا في العاصمة كمواطنين، ولا حتى كمناصرين لتيار رفيق الحريري»، من دون أن يُعفي «الشيخ سعد» (كما كان يشير إليه في كل مرة يأتي فيها على اسمه) من النقد. لم يلقَ كلامه استياء، بل زاد عليه حضور آخرين وإن بطريقة أقلّ حدة. بعد نقاش طويل، سأل أحدهم: «والآن، ما العمل؟ لسنا أولاد اليوم. لدينا كفاءات وقدرات وخبرات. الشيخ سعد قرّر الانسحاب من دون أن يستشيرنا أو يقف عند رأي أحد، فهل نلتزم بيوتنا؟».ساد الصمت قليلاً، قبل أن تفتح عبارته الأخيرة نقاشاً أكثر حدّة. أحدهم أشار إلى ما يقوم به الرئيس فؤاد السنيورة، وآخر تحدّث عن فحوى ما دار في لقاء مع المفتي عبد اللطيف دريان، ونقل ثالث روايات عن هذا أو ذاك من المسؤولين، إلى أن صرخ أحد الموجودين: «بيروت لا يمكن أن تُترك للحاقدين على رفيق الحريري، سواء من جماعة (النائب فؤاد) المخزومي أو جماعة الحزب (حزب الله)». هنا، عاد الجميع إلى السؤال الأول: ماذا نفعل؟
المختار نفسه الذي لم يوفّر الحريري من انتقاداته، كان صاحب الصوت الأعلى مهاجماً من وصفهم بالـ«بلا وفا وبلا أخلاق، واللي لحم أكتافهم من بيت الحريري من البيّ للابن، واللي ولا يوم مدّوا إيدن على جيابن. هني عايشين بأحسن بيوت ونحنا عم نتهجر برا بيروت، وعم نشحد من صندوق الزكاة أو ننطر ولد يبعت لأهلو مية دولار من السعودية».
لم تكن الجلسة لتنتهي على غير ما انتهت إليه: «لكل منّا حق التصرف، وأن يختار حيث يجد مصلحته ومصلحة بيروت والطائفة»، بعد أن قال أحد الحاضرين، وينادونه «دكتور»، بهدوء شديد: «أساساً، حدا منكن مصدق انو في انتخابات؟ ولو حصلت، شو اللي رح يتغير؟ ليش اللي ضد الشيخ سعد أحسن منو؟ ليش شفنا منن شي يوم اللي كانوا بالسراي أو النيابة أو حتى بالبلدية؟ المهم انو اذا ما لقينا بلد نروح عليه، ما يجي مين يذلنا أكتر من اللي فينا!».
ران الصمت في القاعة الصغيرة. وهو نفسه الصمت الذي يسود كوادر تيار المستقبل في مناطق أخرى من لبنان. في صيدا، لا يصدّق أحد أن يوسف النقيب (المدير الدائم للماكينة الانتخابية للتيار) يمكن أن يترشح من دون رضا «الست» (النائبة بهية الحريري)، ولا أن محاميها حسن شمس الدين «بيسترجي يرفع إجر عن إجر بلا مشورتها». لكنّ الأخبار الواردة من دارة «العمّة» في مجدليون تكرّر معزوفة الالتزام بقرار الشيخ سعد. علماً أن الجميع يتحدث عن معركة خفية جارية «بين جماعة الست وجماعة السنيورة»، وإن كان أحد غير قادر على الجزم بمآل الأمور. تماماً كما هي الحال في طرابلس، حيث يعبّر صمت سمير الجسر عن حقيقة المشكلة في التيار الحريري، وحيث يظهر مصطفى علوش متمرّداً لوحده، من دون عصبة أو حاشية ولا من يحزنون، فيما أشرف ريفي يضرّه أكثر مما يفيده، وحيث لا يمكن قياس الموقف ربطاً بما سيفعله آل كبارة أو آل فتفت أو آل ميقاتي.
بين بيروت وصيدا وطرابلس، يوجد مشترك قوي وأساسي اسمه: قوة سعد الحريري.
في لعبة الجماعات اللبنانية، توجد قاعدة رئيسية في بناء الزعامة تقوم أساساً على القوة. لا يهمّ أنصار نبيه بري أو وليد جنبلاط أو سمير جعجع اتهام أيّ من هؤلاء بالوقوف خلف جرائم الحرب الأهلية. تماماً كما لا يهتمّ مناصرو ميشال عون وحسن نصرالله باتهامهما بقيادة المغامرات الكبيرة. المشترك الفعلي بين الجميع أن الجمهور اللصيق بكل هذه الزعامات، إنما يركز على عنصر القوة والدهاء والفعّالية. فقط في حالة الحريري تبدو الصورة مختلفة قليلاً. العاطفة عنصر حاسم في الوقوف إلى جانب الرجل أو خلفه. حتى عندما بدا ضعيفاً في 7 أيار، أو عندما سجنه محمد بن سلمان في السعودية، أو يوم تخلّى عن مَهمَّة تأليف الحكومة وصولاً إلى بيان العزوف عن الانتخابات، كانت العصبية الخاصة بالرجل تشتدّ في كل لحظة تعب تظهر على محيّاه، وتتحول تراصّاً إلى جانبه كلما ارتجف أو دمعت عيناه. الجمهور الذي يحب سعد الحريري، يتحدث عنه بصفته الرجل الذي تعرّض لمؤامرات طوال الوقت، من الأقربين والأبعدين. وحتى من يأخذون عليه عدم إطاحته «الانتهازيين» و«السارقين» من حوله، يعفونه من المساءلة. لكنّ هذا التسامح لا يظهر إلا متى تجرّأ آخرون على محاولة الحلول مكانه.
يصعب على أيّ من القيادات السُّنّية الادّعاء بالقدرة على وراثة الحريري لا في تياره ولا خارجه


بهذا المعنى، يمكن فهم الانسحاب الهادئ لتمام سلام من النادي السياسي المركزي، تماماً كما فعل نجيب ميقاتي ولو على زغل. وحتى «ورشنة» السنيورة لا تعكس عنصر قوة، بل يكفي أن يقول لك معارض له من أنصار الحريري: «ولو، هلأ رئيس حكومة اضرب واطرح، بدو يكسر راس حسن نصرالله، وبالآخر بيروح على باريس بالسر، ليشوف مساعد مسؤول في المخابرات السعودية... شو بعدو رستم هون (اللواء رستم غزالة المسؤول الأمني الذي أدار الملف اللبناني حتى تاريخ خروج القوات السورية من لبنان عام 2005)... ولو!».
يعترض أنصار الحريري على كل محاولة لنبش الدور الذي لعبه الحريري الأب. يرفضون تحميله مسؤولية السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي قادت إلى هذا الخراب الكبير. لذلك، يسارعون إلى الحديث عن وصاية سوريا وعن شراكة كل الآخرين من الزعامات. لكنّهم في حالة الحريري الابن يرفعون الصوت عالياً: «هل بينكم من يقول لنا أين ذهبت ثروة سعد الحريري، وهل تشرحون لنا كيف استفاد من الدولة والمؤسسات والمشاريع وهو لم يعد يملك حتى بيته؟ صحيح أن بعض المقرّبين أو الذين عملوا معه تورّطوا في أمور كثيرة، لكنّ الرجل عاد إلى العمل كأنه موظف برتبة مدير صغير. هو يفتش عن رزقه كما فعل والده قبل خمسين عاماً...».
ثمّة ما لا يمكن الفصل فيه بين السياسي والعاطفي والإنساني في النظرة إلى سعد الحريري. يصعب على أحد، أيّ أحد، من القيادات السُّنّية في لبنان، الادّعاء بالقدرة على وراثة الحريري، لا في تياره ولا خارجه. وما تعلّمناه خلال شهر أنه حتى القوى الأخرى، من حلفاء الحريري اللبنانيين، إلى الرعاة الخارجيين، القابلين به أو الكارهين له، كلّ هؤلاء، وصلوا إلى نتيجة حاسمة: سعد، لا يزال هو الزعيم من دون منافس!