ثمة متغيرات سريعة في المشهد اللبناني، من المبكر التعامل معها بتسرّع، بعدما وصل الانكفاء العربي منذ أشهر الى مكان بدا أن لا عودة عنه. فالإهمال العربي، والخليجي تحديداً، للوضع اللبناني، كان إحدى أبرز سمات المرحلة الماضية، رغم المناشدات التي وجّهت الى السعودية وتدخّل فرنسا المتكرر معها. ومنذ أن ردّ لبنان على المبادرة الكويتية في كانون الثاني الماضي، لم تتّضح أي ملامح حلول للأزمة التي نشبت بين لبنان ودول الخليج، لا بل ظهرت السياسة الخارجية كأنها تتخبط في مقاربة علاقات لبنان بالدول العربية. وجاء الإعلان من باريس عن مساعدات سعودية إنسانية، ليرسم ملامح إشارات خجولة انحصرت بالمؤسسات الإنسانية.لكن في اليومين الماضيين، ومن دون مقدمات، عادت الحركة الدبلوماسية العربية الى لبنان، ليعقبها تحرك إيراني باتجاه بيروت. ففي وقت كانت فيه كل المؤشرات تتحدث عن تضاؤل فرص التدخلات العربية والغربية، في ظل الحرب الروسية ــــ الأوكرانية والأزمة الاقتصادية العالمية، ومراوحة الاتفاق النووي مكانه، بدأ حراك عربي وإيراني يعطي إشارات أولية لم تتضح معالمها بعد، وما إذا كان يصبّ في خانة إيجابية أو يؤدي الى مزيد من التشنج.
إذ يصل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت، من دمشق، بعد غد في زيارة كانت مقررة سابقاً، قبل أن تُرجأ، ومن المقرر أن يلتقي فيها الرؤساء الثلاثة، علماً بأن الوزير الإيراني كان قد زار لبنان في تشرين الأول الفائت، وقدم عروضاً اقتصادية لمساعدة لبنان. وإذا كانت زيارته الأولى أتت بعد شهر من تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، فإن زيارته اليوم تسبق الانتخابات النيابية، وفي ظرف إقليمي ودولي لافت، ولا سيما بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للإمارات.
وهي محلياً تأتي توازياً مع عودة تحريك الاتصالات اللبنانية الرسمية مع الدول العربية. فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي يزور قطر الجمعة لحضور منتدى الدوحة، على أن تكون له لقاءات عدة تتناول الشأن اللبناني، كان قد أطلق موقفاً تجاه المبادرة العربية، في سياق بدا لافتاً بتوقيته بعدما سبق للبنان أن ردّ على المبادرة الكويتية، بتجديد التزام حكومته إعادة العلاقات بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي والمملكة العربية السعودية.
جاء موقف ميقاتي إثر اتصال بينه وبين وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، الذي رحّب بخطوات الحكومة لتصويب مسار العلاقات مع دول الخليج. كما أتى متزامناً مع الإعلان الفرنسي عن مساعدات سعودية مالية إنسانية، والذي تبلّغ به ميقاتي في الاتصال الهاتفي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. وأشارت مصادر ميقاتي الى أن «هناك تحريكاً متجدداً ومكثفاً للمسعى الكويتي بعد فترة من الجمود، وعلى أساسه جاء الاتصال بين ميقاتي والوزير الكويتي، الذي أعقبه تحريك للاتصالات». وأضافت إن موقف الحكومة «تأكيد للموقف اللبناني الرسمي الذي أبلغه وزير الخارجية الى مؤتمر وزراء الخارجية العرب، ولمواقف سبق أن أعلنها ميقاتي ووردت في البيان الوزاري. ومجرد الاتصال وتجديد الاتصالات التي أعقبته دليل على السعي لإنهاء الأزمة بعدما أثمرت الاتصالات السابقة تخفيفاً للتشنج».
حراك عربي وإيراني يعطي إشارات أولية ليس واضحاً ما إذا كانت إيجابية أو تؤدي الى مزيد من التشنج


وقد شكلت كل هذه الخطوات العربية انعطافة مستجدة، وخصوصاً بعد بيان وزارة الخارجية السعودية اللافت بمضمونه وتوقيته والكلام عن عودة محتملة للسفير السعودي الى بيروت وليد البخاري، الذي كان قد شارك في لقاءات باريس الفرنسية ــــ السعودية. وبحسب مصادر سياسية، فإن ثمة أجواء فرنسية وأميركية لفتت الى احتمالات غير مشجعة في موضوع الاتفاق النووي والعقوبات على إيران، وهناك خشية من أن يتجدد التشدد الإيراني في لبنان، ما جعل من التحرك الفرنسي والعربي ضرورة، رغم الانشغالات الأوروبية بأوكرانيا وتداعيات الحرب فيها. وإذا كانت احتمالات نجاح الاتفاق النووي من عدمه لا تزال متساوية، وأن مراحل الاتفاق أصبحت سلباً أو إيجاباً في دقائقها الأخيرة، فإن إمكانات نجاح إيران في إبرامه قد تكون في المقابل مدعاة لتحفيز الدول العربية على استعادة وضعيتها بطريقة مدروسة في لبنان، في إطار استئناف رعايتها للوضع من دون بناء آمال كبيرة.
إلا أن المشهد العربي المتجدّد سيفتح الباب أمام تساؤلات محليّة بقدر ما هي إقليمية ودولية. فكيف ستترجم هذه العودة المدروسة: عبر الحكومة وحدها، أم عبر حلفاء السعودية ودورهم محلياً قبيل الانتخابات النيابية، ولا سيما تجاه الأطراف السنية وتيار المستقبل؟ واستطراداً، هل يمكن أن يتبلور استئناف النشاط العربي على شكل رعاية كاملة، وهذا ليس ظاهراً بحسب المتصلين بدوائر سعودية، أم أنها ستكون مرحلية في انتظار انتهاء الاستحقاق النيابي ليتبيّن لها فعلياً مدى القدرة على مواجهة النتائج التي ستسفر عنها؟