لم يكتف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بكسر القاعدة العامة التي تتحدّث عن الفصل بين السلطات، والتي ردّدها طويلاً في وجه المطالبات بإقالة القاضي طارق البيطار، مقابل عودة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، بل تجاوزها إلى التدخّل علناً في سير عمل القضاء دفاعاً عن المصارف، والاتصال بالمدعي العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، طالباً تدخله لوقف «عشوائية القاضية غادة عون، وهو ما رفضه عويدات.البيان الذي أذيع بعد انتهاء جلسة مجلس الوزراء، التي عقدت في السرايا الحكومية، أمس، ورد فيه أن رئيس الحكومة أكّد أنه «لا يمكننا كمجلس وزراء مجتمعاً إلا أن تكون لدينا إجابة عما يحصل في القضاء من عشوائية وانفعالية، وخصوصاً أن هناك انطباعاً عاماً بأن بعض ما يحصل في القضاء لا يمتّ إلى الأصول القضائية بصلة. ما يحصل في الملف المصرفي غير سليم. أولويتنا كانت وستبقى حقوق المودعين وهذا ما نركز عليه في كل الخطط التي نجريها، لكن الطريقة الاستعراضية والبوليسية التي تتم فيها مقاربة ملف الحقوق والقضايا القضائية المرتبطة بالمصارف خطرة، ومن شأنها تقويض ما تبقى من ثقة بالنظام المصرفي، وسيدفع المودعون مجدداً الثمن. وأخشى أن تتطوّر الأمور إلى ما لا تحمد عقباه إذا لم يصر إلى تصويب الشطط والخلل الحاصل. والملف سيكون موضع متابعة من قبل معالي وزير العدل لوضع المعالجات على السكة الصحيحة».
كلام ميقاتي في جلسة أمس يستدعي إنعاشاً للذاكرة. إذ لم تمض بضعة أشهر على موقف مغاير تماماً تمسّك فيه بالفصل بين السلطات. ففي بيان صادر عن مكتبه في 16 تشرين الثاني 2021، ورد الآتي: «يتم تداول أخبار مفادها التحضير لحلول للأزمة السياسية على قاعدة البيطار مقابل مجلس الوزراء. إن رئيس مجلس الوزراء ينفي هذه الأخبار جملة وتفصيلاً، ويؤكد أن خريطة الحل التي وضعها منذ اليوم الأول هي الأساس، وخلاصتها أن لا تدخل سياسياً، على الإطلاق، في عمل القضاء، ولا رابط بين استئناف جلسات مجلس الوزراء وملف التحقيق القضائي في انفجار مرفأ بيروت». وهو كرّر هذا الموقف بعد لقائه مطران بيروت للروم الأرثوذكس، المتروبوليت الياس عودة، إذ قال ما حرفيته: «نحن مع بقاء الملف في يده ولا نتدخل في القضاء».
أيّ ميقاتي نصدّق؟ ذاك الذي يقود حملة التدخّل في عمل القضاء، أم الذي يرفض «على الإطلاق» التدخل السياسي في عمل القضاء؟
قصّة التدخّل والامتناع عنه في لحظات ما، هي قصّة نموذجية في بنية تركيبة المنظومة اللبنانية. الدفاع عن النظام المصرفي كان الهمّ الأول لدى ميقاتي وسائر الطبقة السياسية. وهذا الأمر يتم منذ أكثر من سنتين حين منع القضاء أو ضغط عليه لمنع إصدار أحكام تفرض على المصارف ردّ الودائع لأصحابها بعملتها الأصلية، وبطريقة التحويل إلى الخارج أو نقداً. يومها، كان قضاء العجلة يصدر قرارات يكسرها قضاة آخرون خاضعون سياسياً، أو تصدر عن المحاكم العادية قرارات يمتنع قضاة التنفيذ عن تنفيذها. تراكمت آلاف الدعاوى ضدّ المصارف، ولم يصدر عن وزارة العدل تقرير بأي سعر صرف يعتمد للبتّ في هذه الدعاوى، بينما المصارف تتصرّف كأنها معزولة عن كل هذا النقاش.
طلب ميقاتي من المدّعي العام التمييزي التدخّل لوقف «عشوائيّة» القاضية عون


في اللقاءات التي جمعت نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي مع المصرفيين، آثر بعضهم الردّ على الشامي بأن المصارف لا تعاني من أي مشكلة وأن على مصرف لبنان أن يردّ لها أموالها لتدفع للمودعين. لكن الواقع، أن المسؤولية الائتمانية المترتبة على المصارف تفرض عليها أن تتحمّل مخاطر توظيف الأموال برساميلها. المودع لا علاقة قانونية تربطه أبداً بعملية توظيف الأموال ونتائجها التي تقوم بها إدارات المصارف. هذا الواقع لا يتجاهله ميقاتي وحده، بل رئيس مجلس النواب نبيه برّي أيضاً. ففي الزيارة الأخيرة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي برئاسة أرنستو راميريز ريغو، لبري، أبلغهم الأخير بأن «ليس لدينا أزمة، بل نعاني من مشكلة سيولة يمكن معالجتها. حاكم مصرف لبنان وعدني بردّ الودائع كاملة لأصحابها». ينقل مقرّبون من برّي أن وفد صندوق النقد الدولي نفى معرفته بطروحات كهذه، بينما يقول آخرون إن راميريز عبّر عن مفاجأته بحجم الإنكار الذي تعيشه الطبقة السياسية. لكن دعكم مما اختلج في صدر راميريز الذي يمثّل الإمبريالية العالمية، أليس مفاجئاً أن يكرّر برّي ما تقوله المصارف؟ أليس مفاجئاً أن تكون العبارة منقولة عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي فشل في ترويج خطّته أمام راميريز نفسه؟ فمن أين لمصرف لبنان الأموال حتى يدفعها للمودعين؟ يشير المقرّبون من برّي إلى أن الخطّة التي عرضها سلامة على بري تتضمن تسديد قسم بسيط من الودائع، وتحويل الباقي إلى أسهم في المصارف، وتملّك المودعين أسهماً في مشاريع للحكومة اللبنانية. هذه الفئات الثلاث هي نفسها المذكورة في خطة توزيع الخسائر التي أسقطها راميريز وفريقه قبل بضعة أسابيع.
يثير هذا الأمر سؤالاً أساسياً: لماذا يسعى ميقاتي إلى التدخل الصريح والعلني بالقضاء، بينما يرفض إقرار الكابيتال كونترول الذي يحمي المصارف من الدعاوى المحلية والخارجية أيضاً؟ في الواقع، الإجابة تكمن لدى برّي. ففي لقائه مع وفد الصندوق، سئل عن الأمر وأجاب بأنه يرفض تمرير «الكابيتال كونترول» حتى يؤمن للمودعين بعضاً من أموالهم. هذه هي علاقة أطراف المنظومة بعضها ببعض؛ رفض المساس بالمصارف. رفض الكابيتال كونترول. رفض إقالة الحاكم.