حاول رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل إظهار أكبر قدر من التماسك السياسي والحزبي الداخلي في مناسبة 14 آذار، استعداداً للانتخابات النيابية. لكن اللغة واللهجة والأداء أظهرت العكس تماماً. عدا عن أن الخطاب السياسي الذي استهدف خصومه كشف عن قلق انتخابي، سبق لباسيل أن عبّر عنه في طريقة مماثلة في 13 تشرين الفائت وفي أكثر من خطاب. في تلك المناسبة حدد باسيل ثلاث نقاط في الانتخابات: موعدها الذي رفضه في آذار، والدائرة 16 الانتخابية الخاصة بالمغتربين والميغاسنتر. بعد أشهر لم يبق من مطالبة باسيل سوى موعد أيار الذي توافق معه حلفاؤه على تحديده. لكن جوهر الخطاب، في الحالتين، كان استهداف الثورة والمستقلين وخصومه المسيحيين. وفي هذه النقطة، يحاول التيار الوطني الحر الذي بدا أقرب إلى خطاب المعارضة منه إلى خطاب حزب العهد، أن يستثمر في مشروع لم يعد يملك فيه عناوين انتخابية لامعة سوى استعادة مرحلة عام 1989، بما فيها من حساسيات وخلافات لا تزال تغري الجمهور العوني والناخب على أبواب انتخابات يرى أنها مفصلية.تمثل الانتخابات بالنسبة إلى باسيل محطة أكثر أهمية من الدورة السابقة، لا لأنها ترسم مستقبله السياسي فحسب، إنما أيضاً تكرس مرجعيته الحزبية الداخلية، في نهاية العهد، بعد تسونامي العماد ميشال عون ورئاسة الجمهورية التي ظلّلت انتخابات عام 2018. بهذا المعنى، لا تنحصر مشكلة باسيل في وصوله إلى المجلس النيابي، بل في كيفية وصوله، ومن سيصل معه وفي أي دائرة. وعلى هذا الأمر سيبنى الكثير لحظة الاستحقاق، وقبلها لحظة يصبح التمديد الخيار الأكثر سهولة في مقابل انتخابات فيها احتمالات خطرة.
يدخل التيار الانتخابات على وقع خلافات داخلية، منها ما خرج إلى العلن، ومنها ما بقي يدور في كواليس النواب والنواب السابقين. لكن سيكون من المبالغة تصوير قيادة التيار خاسرة أمام معارضيها الداخليين، خصوصاً في ظل القانون الحالي، ومع وجود العهد وأجهزته التي تساهم بطريقة أو بأخرى في تعزيز موقع التيار الانتخابي، كما حصل في آخر دورة انتخابية. لكن هذا لا يعني أن الارتياح الانتخابي يسود جو التيار الداخلي الذي تصبح ديموقراطيته الانتخابية مطواعة، حين يتعلق الأمر بحصوله على أصوات حركة أمل والرئيس نبيه بري، فيقنع جمهوره بضرورات التحالف الميكيافيللي لإنجاح المشروع الكبير، الذي لن ينجح إلا من خلال عهد عوني ثان.
ما يخوضه التيار اليوم في الانتخابات قد يكون مبنياً أولاً وآخراً على انقسامات معارضيه. وفي هذه النقطة يبدو رهانه أقرب إلى الحقيقة من أي عنوان آخر. فمعارضو التيار يدخلون الانتخابات على وقع تشرذم غير مسبوق، لم يكن ينقصه سوى أداء الرئيس سعد الحريري وفريقه العائلي والاستشاري. كانت انتخابات عامي 2005 و2009، الأكثر وضوحاً في انقسام الناخبين والسياسيين بين طرفين متناقضين، وإن كانت نتائجهما لم تنعكس لاحقاً بحكومة أكثرية من لون واحد، بل بحكومة مختلطة. اليوم يمكن القول إن هناك طرفين متناقضين: العهد وحزب الله وأمل ومعهم حلفاؤهم، وفريق آخر عبارة عن مجموعة أحزاب وشخصيات ومستقلين وخارجين من رحم تظاهرات 17 تشرين ومجتمع مدني، لم يحصل أن تداخلت انقساماتهم وتمايزت إلى هذا الحد، وبدأت تترك أثراً سلبياً مسبقاً على الناخبين. ويبدو من خلال بعض المظاهر الانتخابية وكأن هدف كل من هؤلاء، ليس كسر الفريق الآخر، إنما كسر الطرف الذي يقف معه في مواجهة العهد وحزب الله وحلفائهما. فبقدر ما يحاول باسيل تحقيق سبق في قيادته المركزية والسياسية، تسعى الأحزاب المسيحية وبعض الشخصيات المستقلة، إلى فعل الأمر نفسه، كل طرف في منطقته، لتأكيد زعامته المناطقية، في شكل يفوق أهمية تحقيق نصر على خصومها. بحيث يصبح المهم تحصيل المقاعد النيابية على حساب الأهم وهو خوض معركة ضد الموالاة. بذلك يختلف الجميع مع الجميع، لا المستقلون راضون بالأحزاب المعادية للسلطة، ولا الأحزاب راضية بما يريده المستقلون، وما تريده الأحزاب الأخرى سواء كان اسمها الحزب التقدمي أو القوات اللبنانية أو الكتائب أو الأحرار أو أي طرف آخر. ولا المنبثقون من مشاهد 17 تشرين أو المجتمع المدني قدموا نموذجاً جديداً من العمل الانتخابي الذي يترجم تشرذماً داخلياً أيضاً. وجاء موقف الحريري من تحرك الرئيس فؤاد السنيورة الانتخابي ليزيد من مشهد انقسام القوى المعارضة. فزاد أداء الحريري بعد تعليقه العمل السياسي من حجم التشتت في المجتمع السني، بين مؤيدين ورافضين، الأمر الذي سيضاعف من حجم الإرباك في تأييد الناخبين للتحالفات التي يصر السنيورة على صوغها في إطار المشاركة في الانتخابات. كل ذلك يجعل من ساحة المعارضة خاصرة رخوة يسهل استهدافها، وتجعل من خصومهم، وهذا لا يحتسب للتيار، يتحركون في الاتجاه الصحيح، طالما أنهم يعرفون مكامن الضعف التي بدأت تظهر في عدد من الدوائر نتيجة كمية الأخطاء التي ترتكب يومياً.