تخبّط إدارات مصارف لبنان لا يرتبط فقط بالإجراءات القضائية. بل تبيّن أن هناك ضغوطاً يمارسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على المصارف لإجبارها على التخلّي عن سيولتها الخارجية لحسابه. ففي الفترة الأخيرة برزت مشكلة تسديد الرواتب الإضافية التي أقرّها مجلس الوزراء للعاملين في القطاع العام. فهذه السيولة تقدر حالياً بنحو 4.5 مليار دولار، وتقابلها التزامات بنحو 4.8 مليار دولار، أي أن قيمتها الصافية هي سالبة بقيمة 357 مليون دولار. هذه الأموال هي أحد المصادر النادرة للسيولة بالدولار لدى المصارف، واستعمالها يجب أن يكون بعناية كبيرة، لكن سلامة يفضّل أن يستحوذ على هذه الدولارات ومقايضتها بالليرة التي يحدّد استعمالها لسداد الرواتب. هو يقول إن لدى المصارف سيولة نقدية يمكنها أن تبيعها له مقابل الليرة، وإنه على استعداد لتأمين السيولة اللازمة بالليرة لسداد الرواتب الإضافية.
(أ ف ب)

هذه الإشكالية ليست عابرة في سياق التحلّل الذي يعيشه أهمّ ركن في المنظومة، أي القطاع المصرفي، وعلاقته بالجانب السياسي. سلامة يقدّم هذه الخدمة لقوى السلطة للحفاظ على الحماية التي توفّرها له. فرغم كل الحديث المتزايد عن خروجه وتعيين بديل ودفعه إلى الاستقالة أو سواها، فإنه باق في موقعه لأنه يمثّل حاجة لدى قوى السلطة. وهذه السلطة، تحتاج اليوم، إلى «إسكات» العاملين في القطاع العام للفوز بما أمكن من أصواتهم. لذا، منحتهم زيادة مؤقتة على رواتبهم وحدّدتها بنصف راتب، إنما سحب هذه المبالغ من حسابات التوطين لدى المصارف، يتطلب من مصرف لبنان أن يضخّ كميات إضافية من الليرة، بعكس ما يقوم به حالياً لجهة سحب ما أمكنه من سيولة بالليرة للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عند مستوى 20 ألف ليرة. هكذا، وقع خيار «المركزي» على نقل المعركة لتصبح بين المصارف وبين أصحاب الحسابات الموطّنة من العاملين في القطاع العام، بدلاً من أن تكون بين هؤلاء الموظفين وبين قوى السلطة مع سلامة. فإذا لم توافق المصارف على تسديد الرواتب كاملة، ستقع المعركة بين أصحاب الحسابات وبين المصارف.
يريد سلامة دولارات المصارف غصباً عنها بعدما كان يغريها بالهندسات المالية

أما إذا وافقت المصارف التي لا تملك سيولة كافية بالليرة، فإنها ستكون مجبرة على بيع قسم من الدولارات التي تملكها لمصرف لبنان مقابل الحصول على هذه السيولة. عملياً، سيستحوذ مصرف لبنان على دولارات المصارف، غصباً عنها، وبشكل مغاير عن الطريقة التي اتبعها عندما أغراها أيام الهندسات المالية لسحب السيولة الخارجية إليه. وقد انتبهت المصارف إلى هذه المعركة مبكراً، فأصدرت أول من أمس بياناً تتهم فيه مصرف لبنان بأنه قرّر تسديد 60% من الرواتب نقداً لا 100%، مشيرة إلى أن مصرف لبنان يملك صلاحية ضخّ السيولة وحده، إلا أن ردّ مصرف لبنان أتاها سريعاً: «نودّ تذكير المصارف أنها تستطيع أن تستحصل على الليرة اللبنانية نقداً على أن تقوم ببيع الدولار الأميركي الورقي على سعر «Sayrafa» لدى مصرف لبنان، ولذا باستطاعتها تأمين حاجات المودعين لديها بالليرة اللبنانية من دون التقيد بالكوتا التي يمنحها لها مصرف لبنان».
ببساطة يطلب سلامة من المصارف أن تشارك معه في معركة توزيع الخسائر حتى الرمق الأخير. لكن لا شيء يضمن للمصارف أنها من الناجين في قارب واحد مع سلامة، بينما السقوط لا يعني بالضرورة سقوط الجميع معه. فهي تدرك أن سلامة يحبّذ مصارف ولا يكترث لمصارف أخرى، كما تدرك أن أوضاع المصارف ليست متشابهة، وأن معايير إعادة هيكلتها لن تكون واحدة للجميع.