انعقد المؤتمر في ظروف بالغة التّعقيد دوليّاً وإقليميّاً ومحليّاً، وخاصة أنّ الأزمة الكيانية الشاملة التي يعيشها لبنان بلغت مستويات خطرة خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.كانت الأكثرية الساحقة من الأعضاء المنظّمين والمنقطعين عن الحضور أو عن التنظيم، تأمل أن يكون المؤتمر فرصة لتصحيح التوجّه السياسي العام، وإجراء تعديلات تنظيميّة توسّع هامش الديمقراطية وتعزّز فعّالية الهيئات وترصّ صفوف الأعضاء وأصدقائهم، وذلك من خلال ردم التباينات السياسية وتجاوز الارتباكات التنظيمية، وإعادة الثقة بالقيادة.
إن تحقيق هذه الأهداف والآمال والطموحات كان يتطلب من القيادة تحضيراً مسؤولاً ونزيهاً ومترفّعاً للمؤتمر، وأن تكون حريصة على إشراك أكبر عدد ممكن من الشيوعيين واحترام وجهات النظر المتنوّعة. بدلاً من ذلك، جرى تجاهل كل الاقتراحات والتحذيرات الشفهية والرسائل الموجّهة إلى اللجنة المركزية والمكتب السياسي والأمين العام. وللأسف خابت الآمال المعقودة على هذا المؤتمر الذي تحوّل إلى مؤتمر انتخابي هاجس منظّميه... التجديد لأنفسهم، وهذا ما تحقّق فعلاً. وللوصول إلى هذه النتيجة المخيّبة جرى خرق النظام الداخلي وخاصة في بنود عديدة أبرزها تلك التي تفرض مشاركة وتمثيل أكثرية ثلثي الأعضاء لأي مؤتمر قاعدي وللمؤتمر بشكلٍ عام حتى يكتسب شرعيته. والأسوأ من ذلك أنه قد جرى تجاهل وإهمال العديد من المنظمات خاصة في المناطق، وتمثيل أُخرى كبيرة، بشكل جزئي ورمزي ومهرَّب...
هذا على صعيد آليات ومجريات التحضير للمؤتمر. أما على صعيد التوجهات والتوصيات السياسية، فلم يكن الوضع بأفضل. حيث جرى الإصرار على اعتبار أن مدخل التغيير هو عبر الرهان، فقط، على العامل الاقتصادي الاجتماعي للأزمة، في تجاهل متعمّد لطبيعة الصراع الدائر في البلد وفي المنطقة الذي هو صراع سياسي متواصل ضدّ مشروع الهيمنة الأميركي الصهيوني الرجعي العربي، والذي تُعتبر الأزمة الاقتصادية الاجتماعية إحدى تداعياته الكبيرة، فضلاً عن إجرام منظومة النهب والفساد، وعن الخلل الجوهري القاتل في النظام السياسي وأداته الطائفية. وقد أدى الخلل في تحديد الأولويات إلى خلل في التوجّهات والسلوكيّات والتحالفات. وتفاقم هذا الانحراف خاصة مع انطلاقة تحركات 17 تشرين التي صُوّرت وكأنّها ثورة ناضجة مستوفية الشروط، الذاتية خصوصاً، وبالتالي مؤهّلة لصنع تغيير عميق في بنية النظام، والتمهيد لقيام دولة ديمقراطية علمانية. هذه المبالغة في الإمكانات المتاحة وعدم الرؤية الواقعية لطبيعة التناقضات وتوازنات القوى، أدّيا في النهاية إلى إحباط عشرات آلاف المشاركين من الجمهور والمناضلين، إضافة إلى أن هذا التحليل الخاطئ مهَّد وبرَّر، للقيادة، نسج تقاطعات وتحالفات مع قوى هي من صلب دعائم الدولة العميقة، وبعضها راهن عليه الغرب الأطلسي لتجديد أدواته، وبالتالي لتعزيز نفوذه وهيمنته على السلطة اللبنانية الجاري العمل لبنائها من قبل المخطّط المعادي. وهكذا بدلاً من قيام المؤتمر بتقييم نقدي موضوعي للتجربة، أوغل في التمسّك بالتحليل والأوهام والرهانات والتحالفات ذاتها. يدل على ذلك ما أُقرّ من توجهات من قبل اللجنة المركزية السابقة بشأن السياسة الانتخابية والمعتمد أساساً على التحالف مع ما يُسمّى منظمات المجتمع المدني، التي معظمها غير مستقلّ ويتأكد كل يوم أنه إحدى الأدوات الرئيسية للنفوذ الغربي في لبنان والعالم.
أما على الصعيد التنظيمي، فلم يكن الأداء بأفضل. إن تكرار إعادة النظر بالنظام الداخلي على أبواب كل مؤتمر، يُعتبر بالحد الأدنى ظاهرة غير صحية، وبالحد الأقصى محاولة للتأثير واللعب بنتائج المؤتمر قبل انعقاده، والتحكّم بها مسبقاً. وهو ما جرى فعليّاً في هذا المؤتمر وبشكل فظّ، حيث جرى استبعاد العديد من المناضلين الأكْفاء وذوي التاريخ النضالي المشهود فقط لأنهم غير موالين ومنتقدون لبعض المواقف السياسية.
والأسوأ من ذلك أن ما يُسمى تعديلات أُقِّرت أو رُفض إقرارها في المؤتمر، كان استمراراً للانقلاب على الإصلاحات التنظيمية التي سبق إقرارها في المؤتمرات السابقة.
وأخيراً، وليس آخراً، تم تركيب قيادة لا تراعي التنوّع، ولا تعكس آراء وإرادة القاعدة الحزبية، وإنما تعكس الإصرار على التفرّد وتثبيت الوجهة السياسية الرمادية والمتقاطعة مع القوى التابعة للمشروع الأميركي الصهيوني الرجعي.
كذلك لاحظ الكثير من المتابعين والمشاركين داخل الحزب وخارجه، تدنّي مستوى النقاش وغلبة العصبوية الخاوية، والكيدية، والسطحية الفكرية والسياسية.
أمام كل هذه المجريات التي سبقت ورافقت وأعقبت انعقاد المؤتمر الـ12، لا يسعنا إلا الإعراب عن الخيبة، مع الإصرار على رفع مستوى النقد لما نراه خللاً متمادياً في السياسة والتنظيم والأداء. لذلك ندعو الشيوعيين لمشاركتنا في الاعتراض من أجل تصحيح أشكال الانحراف، ومن أجل العودة إلى المسار النضالي المشرق والمشرّف الذي سلكه الحزب، خصوصاً، منذ المؤتمر الثاني عام 1968.

الأمين العام الأسبق فاروق دحروج
عدد من المسؤولين والكوادر الحاليين والسابقين