يمكن للسينما أن تكون الوسيلة الوحيدة التي تُظهر أكثر الأعمال المهينة للإنسان مثل جرائم القتل بطريقة جمالية، ما يجعلنا نمدحها ونثني عليها متناسين أنها في نهاية المطاف سلوكيات منحرفة. ولكن بطريقة ما توقظ السينما في عقلنا الباطني نوعاً من المتعة الجمالية التي تجعلنا نبجّل هذا العمل المشين، تجعلنا نتخيل أشياء بأسلوب يحاكي الواقع. بقوتها البصرية السمعية تخلق السينما قطعة من الحياة، وبنفس الوقت تميز نفسها عنها بوضوح شديد. تخلق بيئة مواتية للتمتع بالعواطف والأفكار والأفعال التي نكرهها في العالم الحقيقي، وتدمج معها الخيال والجمال لتجعلنا مسترخين إلى حد ما، بحيث نبقى قادرين على مواصلة ادعاء أننا أشخاص طيبون، مع استمتاعنا بأبشع الجرائم من دون الشعور بأي ذنب. تجبرنا السينما على النظر إلى الأعمال العنيفة بطريقة جمالية فيها الرهبة والإعجاب والحيرة. لا يُشترَط بالفن ان يكون جميلاً، بل أن يشعرنا بشيء؛ شعور الرهبة هذا كافٍ لنتأكد أننا أمام عمل فني
«البيت الذي بناه جاك» The House That Jack Built

االفيلم مشابه تماماً للمنازل الحديثة التي بنتها الحضارة. فالحضارة مبنية على الثقافة والعلم والفن، وهي مبنية أيضاً على جثث القتلى! الفن التي أتقنته الحضارة الإنسانية هو فن القتل، بداية من قابيل وهابيل في الكتب المقدسة إلى الإبادة الجماعية والحروب العالمية. تدور قصة فيلم المخرج الدنماركي لارس ڤون ترير حول جاك (مات ديلون)، وهو قاتل متسلسل، مهندس يحلم بمهنة العمارة، يريد بناء منزل دقيق التفاصيل. هو بارد ممل ويعاني الوسواس القهري. وقاتل لا يستخدم طريقة واحدة في القتل. ومن وجهة نظرة هو يمارس فناً، والفن «يتطلب كثيراً من الحب». في الفيلم يخبرنا جاك خمسة جرائم قتل ارتكبها خلال حياته الإجرامية من دون ترتيب زمني محدد. حكاية جاك بأكملها اعترافات أساساً، أعذار طويلة وأحياناً صاخبة لأفعاله. يجمع جاك ضحاياه في ثلاجة كبيرة، لبناء شيء منها يشبه البيت الذي يحلم به. الفن شكل من أشكال التعبير الإنساني، وهو بعيد كل البعد من أي أثر للأخلاق، وفن جاك في القتل يأخذنا إلى فن آخر مثل العمارة والنحت والأدب والشعر والتصوير والرسم. حواراته فلسفية رصينة تتدفق مثل قارب دانتي في الماء. ليست الجريمة محور الفيلم. كل شيء يبدأ من حوار جاك مع فيرغ (برونو غانز)، ولا نرى وجهه، فقط نسمع صوته حتى آخر الفيلم. أهو معالج نفسي؟ أم هو الضمير؟ أم الشيطان؟ المهم أن جاك وفيرغ يتحاوران، يحكي جاك خلال الحوار خمس جرائم، من بين عدد كبير من الجرائم التي يرتكبها. تصبح الحوارات شائكة أكثر فأكثر، يبرر القاتل أفعاله، هو مقتنع بأنه فنّان ويقدم في السياق تبريرات فلسفية فنية بل وتاريخية.


ويحضر الخلق، إغراء الجسد، الرعب والعنف، الموت، الفن، الحدود، الخير والشر وربما القليل من السينما. هكذا يأخذ ڤون ترير فيلماً اعتيادياً عن قاتل متسلسل، إلى الزوايا الفلسفية، ليفنّد الطبيعة المعقدة للإنسان، من «الكوميديا الإلهية» لدانتي، فلوحة «فيرجيل في الجحيم» لويليام أدولف بوغورو، ينغمس في الفن الجميل، وحياة الأديب الانكليزي توماس دي كوينسي وموته، ثمّ موسيقى الكندي غلين غولد المتميزة فنياً.
يعد الفيلم استكشافاً مجازياً للعلاقة بين العنف والفن، تماماً مثل كتاب «القتل بوصفه فناً جميلاً» (1827) للكاتب توماس دي كوينسي، ويذكّرنا أيضاً بالقاتل الدكتور هانيبال ليكتر في فيلم «صمت الحملان» (1991) الذي ينظر أيضاً إلى الجريمة والقتل لا بكونها من أعراض الانحلال الاجتماعي وحسب، ولكن كتعبير نهائي عن الفنون الجميلة. يجبرنا الفيلم على التساؤل ما إذا كان هناك شيء قد يكون مثيراً للاشمئزاز ومزعجاً، بينما هو أيضاً فن وترفيه، خاصة في إشارته إلى مفهوم «التعفن النبيل» و«جمال الأنقاض».
الحضارة مبنية على الثقافة والعلم والفن، وهي مبنية أيضاً على جثث القتلى

هذا الفيلم مواجهة بين العنف والفن، وهو أيضاً «عنف فني». يعاني الكثيرون من مشكلة الفن العنيف، مع أن متغطرسين عديدين يرغبون بتجاهل عنف الفن الكلاسيكي بقدر استعدادهم لتأديب الفنانين المعاصرين لاستخدامهم العنف. الأعمال العنيفة جزء من الحياة، وإنكارها إنكار للواقع.
تصوير القتلة كفنانين والقتل كفن، لم يبدأ مع لارس ڤون ترير. مثلا فيلم «M» (1931) لفريتز لانغ أحد أوائل أفلام القتل التي أرست بشكل فعال صيغة القاتل المتسلسل الفنان والبطل. وكذلك فإن أفلام ألفرد هيتشكوك وداريو أرجنتو كلها تقترح أن النفس الإجرامي والفن تأتي من ولد مختل عقلياً. ربما هذا قريب من قول القاتل المتسلسل إد كيمبر: «لفهم الفنان، يجب أن تنظر إلى أعماله الفنية».




في فيلم «Seven» (1995) للمخرج الأميركي ديڤيد فينشر، يقتل القاتل المذنبين بالطريقة التي يؤدون بها خطاياهم. يشير الفيلم إلى الخطايا السبع المميتة التي يجب على الناس تجنّبها. الفيلم مبني على كتاب «المطهر»، الكتاب الثاني من «الكوميديا الإلهية» لدانتي، الذي يصف عقوبات من يقترفون الخطايا السبع المميتة. ها هنا كيفية تصوير الفيلم لهذه الخطايا:
1- الشراهة: تشير الشراهة إلى الإفراط في تناول الطعام. يقتل القاتل الضحية عبر إجباره على تناول كمية كبيرة من الطعام قبل أن يركله بقوة على بطنه حتى الموت.
2- الكسل: هنا يربط القاتل الضحية على السرير لمدة عام تقريباً ولا يتركه يموت كي يثبت مدى تأثير الكسل على الشخص.
3- الجشع: في مسرح الجريمة الثاني، وصل المحققون ووجدوا محامي دفاع مقيداً وراكعاً على أرضية مكتبه. بجانب جسده ميزان فيه رطل من اللحم في كفة واحدة. يشتبهون في أن الرجل أعطي سكيناً وأُمر بقطع رطل من اللحم من جسده. كلمة «الجشع» مكتوبة بدماء الضحية على الأرض. هناك ملاحظة من القاتل بجانب الجسد تقول «رطل واحد من اللحم، لا أكثر ولا أقل، لا غضروف، لا عظم، بل لحم فقط». يموت الضحية بسبب النزيف بعد إجباره على قطع رطل من اللحم مقابل الجشع الذي أظهره في حياته المهنية كمحام.
4- الكبرياء: قامت الضحية بقطع أنفها ولصق زجاجة من المهدئات في راحة يدها، وهاتف على الأخرى، ويبدو أنها اختارت الانتحار على طلب المساعدة، وذلك لاعتزازها بمظهرها السابق.
5- الشهوة: طُعنت الضحية من قبل زبونها بواسطة حزام ثُبِّت على وسطه سكين، وهناك مسدس مصوَّب إلى الرأس.
6- الحسد: الضحية هو القاتل المتسلسل نفسه لأنه كان يغار من حياة المحقق الطبيعية، وبالتالي فإن القاتل مرتبط بخطيئة الحسد. يطلق المحقق النار على رأسه.
7- الغضب: بعد أن عرف المحقق أن القاتل المتسلسل قطع رأس زوجته، أطلق النار عليه. وهذا مرتبط بخطيئة الغضب، وبالتالي يذهب إلى السجن، حيث ربما يكون قد أعدم، لارتكابه جريمة القتل، بعد أن قتل القاتل، انتقاما لمقتل زوجته.


جريمة القتل كمنتج إبداعي
1- تتعامل السينما مع الجريمة عبر مرحلتين: إذا لم تحدث جريمة القتل، فيجب علينا أن نتعامل معها بطريقة أخلاقية لأنه لا تزال هناك فرصة لمنع حدوثها. أما إذا حدثت عملية القتل، فلا يوجد شيء يمكن القيام به حيال ذلك إلا أن نقدرها بمنظور جمالي.



2- هناك اتجاهان سينمائيان رئيسيان لعرض القتل كفن: من ناحية، هناك أفلام تعرض القتل كمنتج فني. ومن ناحية أخرى، أفلام تعرضه كأداة فن. الاتجاه الأول، يهتم أكثر بالناحية الجمالية لمشهد الجريمة أو بقايا الضحايا والأشلاء، بدلاً من دافع القتل أو عملية القتل أو حتى وجود القاتل. أما الاتجاه الثاني فيصوّر كيف يرتكب القاتل جريمته. ويهمنا التأكيد أن هذين الاتجاهين لا يستبعدان أحدهما الأخر، هناك أفلام عدة تتلاعب بكليهما بطريقة شقية.

3- «فقط أولئك الذين يتمتعون بامتيازات عقلية، والذين يتمتعون بقيمة فكرية لا يستطيع الآخرون فهمها، يمكنهم ارتكاب جريمة جيدة» – من فيلم «Robe» لألفرد هيتشكوك.

4- «علمني السيد هيتشكوك كل شيء عن السينما. بفضله فهمت أنه يجب عليّ تصوير مشاهد القتل كأنها مشاهد حياة ومشاهد الحب كأنها مشاهد قتل» – غريس كيلي



5- في أفلام كثيرة يُعاد استخدام الجثث لأغراض عملية: في فيلم «Motel Hell» يكسب مزارع ربحاً من خلال تحويل ضحاياه لسماد للزراعة. في «The Texas Chainsaw Massacre 2»(1986) فازت عائلة من عمال المسالخ السابقين بمسابقة تكساس- أوكلاهوما للفلفل الحار لعامين متتاليين بسبب «اللحوم الممتازة». في فيلم «القصة غير المروية» (1993) يقوم القاتل السادي وونغ تشي هانغ بإطعام رفات ضحايا للشرطة التي تحقق في قضيته من خلال تمويهها في شكل كعكات من لحم الخنزير.

6- «قد يكون القتل فناً أيضاً. قد تكون قوة القتل مُرضية تماماً مثل القدرة على الإبداع» – من فيلم «Rope» لألفرد هيتشكوك.

7- «أحب النساء، لذلك أفضّل أن أرى امرأة جميلة تُقتل على أن أرى رجلاً قبيحاً» – داريو أرجنتو