صحيح أن القانونَ شكّلَ محطةً مفصليةً هامّة في مسارِنا النضالي، لكنه لم يضعْ نقطةَ نهايتِه. صحيح أنّ صدورَه تأخّر 28 عاماً، إلاّ أن ذلك لا يُلغي الاعترافَ بأنه إنجازٌ مهمٌ كرّسَ حقّنا بمعرفةِ مصيرِ أحبائِنا أحياءً كانوا أو أمواتاً. إنه إنجازٌ سطّرناه، نحن أهالي المفقودين، بوحدتِنا، بتمسكِّنا بحقِّنا، باستمرارِ تحركّاتِنا في زمنَيْ الحربِ وبعدها، ببقائِنا على مسافةٍ واحدةٍ من جميعِ الأحزابِ والتياراتِ والطوائفِ وبعدمِ توجّهِنا ومطالبتِنا إلاّ للدولة لأن حلَّ قضيتِنا بيدِها وحدَها. اليوم، أين نحن من القانون/الإنجاز، وما مفاعيلُه العملية بعد أن دخلَ عامَه الرابع؟
«لا حسّ ولا خبر»! لا، هناك خبرٌ هامٌ ومفيد. لقد أثمرتْ جهودُ لجنةِ الأهالي، من خلال متابعةِ حراكِها واتصالاتِها وضغوطِها، صدورَ أوّلِ مرسومٍ تطبيقي للقانون 105/2018، والمتعلّق بتشكيلِ الهيئةِ الوطنيةِ للمفقودين والمخفيين قسراً، المؤلّفة من عشرةِ أعضاءٍ وفق المادة (10) منه، والمُولجة بتقفّي أثرِ المفقودين والكشفِ عن مصيرِهم (المرسوم رقم 6570 تاريخ 3/7/2020).

(هيثم الموسوي)

إلاّ أن ولادةَ هذه الهيئة الوطنية لم تؤدِّ إلى إطلاق صفّارةِ البدءِ بالعمل نتيجة اعتذارِ أو استقالةِ أعضاءٍ منها. انتظرنا حتى تاريخ 13/4/2021 ليتمَّ اكتمالُ عقدِ هذه الهيئة بصدور المرسوم رقم 7633. تفاءلنا بالخير، وعملنا على جدولةِ برنامجٍ لمواكبة عمل الهيئة، مفتاح خلاصنا من نفَقِ الظلم والظلام الذي طاولنا ومفقودينا. لكن فرحتَنا سرعان ما تبخّرتْ بخبرِ استقالةٍ جماعيةٍ لأربعةٍ من أعضاءِ الهيئة عشيّةَ انتخابِ مكتبِها من دونِ ذكرِ أي مبرّرٍ لهذه الاستقالة. ما أثارَ الاستغرابَ، بل الاستنكارَ أنَّ هؤلاء يُمثّلون هيئاتٍ نعتبرُها في طليعةِ المدافعين عن حقوق الضحايا. كأنَّ المقصودَ بهذا التصرّف المساهمةُ بتعطيلِ عملِ الهيئة من داخلهِا. أمّا التعطيلُ من الخارج فهو من صنيعةِ السلطةِ التنفيذية. كأنَّ هذا التعطيلَ مُتعمّدٌ ومتعدّدُ الوجوه:
أولاً، عدمُ تعيينِ أربعةَ أعضاءٍ بدل الذين تقدّموا باستقالاتِهم وقد مضى عليها حوالى تسعة أشهر.
ثانيا، عدمُ إعطاءِ الهيئةِ الوطنية مقراً خاصاً وملائماً لطبيعةِ عملِها كي تستطيعَ المباشرةَ به.
ثالثاً، لم تُمنحْ الهيئةُ المذكورة الاعتماداتِ الماليةَ اللازمة عن العام الفائت. ولا ندري إن كان سيُلحظ لها ميزانية ضمن مشروع الموازنة العامة للعام 2022 وفق ما ينصُّ عليه القانون 105/2018. من غير المقبول هنا التذرّعُ بوضعِ الخزينةِ المفلسة. يمكن تغطية المساهمة المالية السنوية المقرّرة للهيئة في القانون (المادة 23 منه) إذا توفّرت الإرادة، بإيقافِ صفقةٍ واحدة من صفقات الفسادِ والسرقة.
هل نستسلم؟ بالتأكيد، لا. وقد أصبحنا أقوى بعد أن نجحْنا في تثبيتِ حقِّ المعرفة، وتأمينِ الإطارِ القانوني لذلك.
لم نستسلمْ ولن، وقد خَبِرْنا المشْيَ على دروبٍ من جمْر، دروب وعرة ملغّمة بأفخاخٍ متعدّدةِ الوجوهِ والألوانِ والأوزانِ على مدارِ سنواتٍ ستبلغُ الأربعينَ بعد أشهرٍ قليلة.
لن نتركَ عظامَ أبنائنا المغطاة بطبقةٍ من التراب عرضةً للدّوْسِ تحت النعالِ كل يوم.
لا نظنُ أنّ الشعبَ اللبناني، بهيئاتِه وأفرادِه، يَقبلُ أن يستمرَّ بالعيشَ فوق عظامِ أحبائِنا الذين هم إخوةٌ لهم في المواطنية.
سنحرصُ على فرضِ التعاملِ مع المقابرِ الجماعيةِ وفْق القواعدِ العلميةِ المُعتمدَةِ دوْلياً. سنحرصُ على احترامِ كرامةِ الرفاتِ وكرامة ِأهاليهم. ونحذّر أننا سنقفُ في وجهِ أيّ محاولةٍ للاستثمارِ أو التوظيفِ السياسي أو الطائفي أو المناطقي في هذا المجال، بغضِّ النظرِ عن مصدرِه .
لن نتخلّى عن أحبّةٍ سَرقَتْهم الحرب ولم يُعِدْهم سلمُ «عفا الله عمّا مضى»، لأنّ الماضي لم يمضِ، لأن هذا السلم مفخّخٌ.. يَشهدُ على ذلك ما وصلتْ إليه البلادُ من تخبّطٍ وأزماتٍ على كافة المستويات ومن انهيار كافة مقوِّمات الدولة.
لذا، نحن، أهالي المفقودين، لن نقبلَ أن يبقى القانون 105/2018 حبراً على ورق. لن نقبلَ مقولةَ «هلّأ مش وقت المفقودين.. رح نفقد البلد»! بل نقولُ إنّ كلَّ يومٍ هو يومُ المفقودين، لأنه لو عُولجتْ قضيتِهم منذ توقّف الأعمالِ العسكرية وإعلانِ سلمِ «تبويس اللحى» لما وصلتْ البلادُ إلى ما وصلتْ إليه.
لن نتركَ عظامَ أبنائنا المغطاة بطبقةٍ من التراب عرضةً للدّوْسِ تحت النعالِ كل يوم


لن نقبلَ أن يبقى القانون 105/2018 حبراً على ورق، ليس من أجلِنا وأجلِ مفقودينا فقط، بل من أجلِ المجتمع، فنحن جزءٌ منه، ومن أجلِ نهوضِ الدولة من كبوتِها والوقوف على رجلَيْها من جديد.
نرى أنه في حال أُحسِنَ تطبيقُ أحكامِ هذا القانون، فإنّ نتائجَهُ سَترتدُّ إيجاباً لصالحِ الجميع. tعلى مستوى أهالي المفقودين، sيُخفّفُ تطبيقُ القانون من معاناتِهم ويُخرجُهم من دوّامةِ الانتظارِ واللّايقين من خلال إعطائِهم الأجوبة الوافية عن مصيرِ أحبتّهم. وعلى مستوى المجتمع والدولة، سيشكّلُ تطبيقُ القانون الممّرَ الإلزاميَ للمصالحةِ الوطنيةِ الحقيقية التي لم تحصلْ بعد. كما سيساعدُ الدولةَ على استعادةِ مصداقيتِها وعافيتِها، والقيامِ بمسؤولياتِها. وسيعيدُ إليها الاعتبارَ لأنها عندما تأخُذُ القرارَ السياسي الجدّي وتقرّرُ البحثَ عن المفقودين فهي تفتشُ عن أبنائِها. تفتشُ عنهم كمواطنين أو مقيمين متساوين من دون أيِّ تمييزٍ طائفيٍ أو مذهبيٍ أو مناطقي، كما يساهمُ في تحصينِ المجتمعِ من الانزلاقِ مجدّداً إلى التقاتل.
ها قد أتتْ الفرصةُ المناسبةُ لاستثمارِ هذا الإنجاز. فلنستثمِرهُ معاً، الآن الآن وليس غداً. فلنُترجِمْ هذا الإنجاز من خلالِ السعيِّ الجدّي والحثيثِ من أجل فكِّ القيود المكبِّلة للهيئة الوطنية، وتسهيلِ الطريقِ أمامها بإزالة كل العقبات التي تعترضُها، ومنحِها كلِ الإمكاناتِ الماديةِ واللوجيستيةِ كي تستطيع تنفيذ المهمة الصعبة والنبيلة التي أُنشئت من أجلها.
مفاعيلَ إقرار حقوق المفقودين وأهاليهم لا يُريحُ هذه الشريحة من الناس، من دون التقليلِ من أهميّةِ ذلك، بل يشكّلُ الطريقَ الأمثلَ لإعادةِ بناءِ الدولة على ذاكرةٍ موحّدة، على أسسِ المساواةِ والعدالة والديمقراطية. فلنستثمر هذا القانون لبناءِ قيَمِ السلمِ على أنقاضِ قيَمِ الحرب. وإلاّ على الوطن السلام.

* رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان