صدر في الآونة الأخيرة تقارير عن منظمات حقوقية دولية تدين «إسرائيل» بجريمة الفصل العنصري تجاه الفلسطينيين في «الأراضي الفلسطينية» (المعترف بها دولياً على أساس حدود ١٩٦٧) أو في داخل «إسرائيل» (فلسطينيّي الداخل). آخرها كان تقرير منظمة العفو الدولية، والذي استقبله الناس بآراء متناقضة في هذا الخصوص، بين رأي يحتفي ويشيد بمثل هذه التقارير وأهميتها على صعيد القانون الدولي، ورأي آخر يسلّط الضوء على خطورة المصطلحات والمخرجات التي خرج بها التقرير على صعيد لبرلة القضية. إذ يساهم تناول القضية في الإطار الحالي لمنظومة حقوق الإنسان ومن خلال هذه التقارير في إعادة إنتاج المنظومة الاستعمارية، وبصورة أخطر يحصر القضية الفلسطينية في الجانب الحقوقي الإنساني، أي يجعلها قضية إنسانية بحتة من دون الاعتراف بها كحركة تحرر ومقاومة للاستعمار. أمّا الرأي الثالث فهو الرأي العدمي الذي يشتم ويلعن هذه المنظمات ويدعو إلى مقاطعة المجتمع الدولي. هذا الصخب الحاصل حول التقرير يستدعي فهماً لتطوّر منظومة حقوق الإنسان وصناعتها، التي أدّت لاحقاً إلى خلق حالة من عدم الإيمان، بل وحالة من «التهكّم» لدى كثيرين عند تناول القانونيين والحقوقيين للقضية الفلسطينية ضمن خطاب حقوق الإنسان
اثنتا عشرة مرةً وردت فيها تسمية «المنظمات غير الحكومية» في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المعقود في فيينا بتاريخ 25 حزيران 1993، الذي يؤسس لبرنامج عمل منظومة حقوق الإنسان تحت مظلة الأمم المتحدة. يشير الإعلان اللاحق لهذا المؤتمر إلى أهمية التعاون بين الدول الأعضاء والمنظمات غير الحكومية لتعزيز وتسيير العمل للقضاء على جميع انتهاكات حقوق الإنسان على الصعيدين الوطني والدولي. كما يحث المؤتمر على الدفع بجهود المنظمات غير الحكومية لمناهضة ما أسمته بـ «الشرور». ويخص بالذكر في البند (38) الاعتراف بالدور الهام الذي تمارسه هذه المنظمات غير الحكومية في «تعزيز أنشطة حقوق الإنسان... وتعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية... وينبغي أن تتمتع المنظمات غير الحكومية بحرية تنفيذ أنشطتها الخاصّة بحقوق الإنسان، من دون تدخل، في إطار القانون الوطني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان».

(صورة من فيديو عن صفحة eye on palestine)

حضرت المؤتمر آنذاك 841 منظمة غير حكومية من كافّة أنحاء العالم، تدّعي جميعها حمل رسالة حقوق الإنسان. يكاد هذا العدد الهائل يتضاعف عشرات المرّات ليصل إلى بضعة آلاف في عالم اليوم، خاصة في ظل ظهور جيل ثالث ورابع من الحقوق الليبرالية. تهتم كثير من هذه المنظمات بالحقوق المدنية والسياسية، وبالتالي بحقوق الأفراد التي تمسهم بوصفهم مواطنين في دولة. ومن بين هذه المنظمات، منظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية. تمتلك هذه المنظمات صلاحيات كافية لتنفيذ مهامها، فكما جاء في البند 10 من تقرير مجلس حقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والستين للعام 2009، أنّه لضمان مواصلة المنظمات غير الحكومية عملها، يجب التكفّل بحصولها على المساعدات والموارد اللازمة.
أمّا عن أهمية التقارير التي تتقدّم بها هذه المنظّمات فتعتبر مصادر خصبة للمعلومات، إذ تقدّم شرحاً لأوضاع حقوق الإنسان في مناطق ودول معينة، وتشكّل هذه التقارير مصادر مهمّة للجان الإشراف على تطبيق المعاهدات التي تحمي حقوق الإنسان في الدول الأعضاء، أو حتى من خلال اللجان والأجهزة المنشأة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. تؤدي هذه التقارير إلى تشكيل ضغط أو كسب تأييد في القضايا التي تتناولها، كما أنّها قد تكون في كثير من الأحيان «تقارير ظل»، أي أنها تصدر بالتوازي مع التقارير الصادرة عن الحكومات، وتعمل على فحص المعلومات الواردة في التقارير الحكومية بما يفيد تأكيد أو نفي التزام هذه الحكومات بالاتفاقيات الخاصة بحماية وتعزيز حقوق الإنسان.

أصل حالة «التهكّم» تجاه منظومة حقوق الإنسان والمجتمع الدولي
بعد صدور التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية، الذي تبع تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» في وصم «إسرائيل» بتهمة الفصل العنصري، انتقد نشطاء سياسيون كثر التقرير لأنه يتعامل مع «إسرائيل» بوصفها نظام «فصل عنصري» بصورة تخفّف من حدّة واقع الاستعمار الإحلالي على امتداد فلسطين التاريخية. فلم يرد في التقرير أي تجريم للاحتلال، بل إنه يتوجّه، عبر توصياته، إلى أجهزة وسلطات الاحتلال بصورة تعيد إنتاجها. كما ينتقد كثيرون ما جاء في الصفحة (38) من التقرير الذي يرفض الخوض بمسألة الحق في تقرير المصير للفلسطينيين ويساويه بحق «تقرير المصير لليهود»، ويقر باعترافه بشرعية «إسرائيل» بحسب قرار التقسيم رقم (181) على أراضي عام 1948 والأراضي التي تقع تحت «سيطرتها الفعلية»، وذلك كلّه تجنباً لوصفها بقوى احتلالية. في المقابل،فقد أورد التقرير نفسه في الصفحة (58-59) ما يفيد بأن الفصل العنصري قد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية حين يُرتكَب من قوى احتلالية.
محاولات لحصر القضية الفلسطينية في الجانب الحقوقي الإنساني من دون الاعتراف بها كحركة تحرر ومقاومة للاستعمار

لسنا بمعرض مناقشة شرعية وجود الاحتلال الإسرائيلي بحسب القانون الدولي، ولكن ما يهمنا هو أنّ هذه التقارير التي تصدر عن منظمات المجتمع المدني (غير الحكومية) ليست بمعرض الفصل في شرعية وجود الاحتلال الإسرائيلي من عدمه، كما أنّها تعمل وفق ما تعترف به الأمم المتحدة من تقسيمات الدول وعليه تعترف بـ «إسرائيل»، وتنتهي حدود «الأراضي الفلسطينية» عندها حسب تقسيمات عام 1967.
يمكن تفسير علاقتنا بالمجتمع الدولي وقوانينه من خلال تاريخ الحركة الحقوقية في فلسطين، التي تحوّلت من حركة نضالية تعتمد مبادىء فعلية لحقوق الإنسان كمبادىء العدالة الاجتماعية - التي طالبت فيها أولى الثورات ضد الاستعمار البريطاني ثم الصهيوني لفلسطين - إلى صناعة حقوق الإنسان التي امتهنتها سلطة أوسلو ومنظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج. تعتقد لوري ألين مؤلفة كتاب «ازدهار وانهيار حقوق الإنسان: التهكّم والسياسة في فلسطين المحتلّة»، أنّ ما يسود المشهد اليوم في العلاقة مع منظومة حقوق الإنسان هو حالة «التهكّم والسخرية» التي تجعل من خطاب حقوق الإنسان خطاباً مشبوهاً مرتبطاً بشكلٍ أو بآخر بصناعة حقوق الإنسان التي تلقى استثماراً هائلاً من دول التحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والذي تتلقاه مؤسسات السلطة في محاولة لاحتكاره.

أدّت نشأة السلطة من خلال اتفاقية أوسلو إلى تطبيع الاحتلال على الصعيد القانوني الدولي

أصبح هذا الخطاب «غير مُجْدٍ» برأي كثيرين ممن عقدت معهم الكاتبة مقابلات، بل يؤسس لإعادة إنتاج الوضع القائم. ولعل من أكثر النقاط أهمية التي تطرقت لها الكاتبة هو أنّ العمل الحقوقي القانوني المجدي فعلاً كان قد بدأ قبل نشأة السلطة من خلال مؤسسات كـ «مؤسسة الحق». وقد أدّت نشأة السلطة من خلال اتفاقية أوسلو إلى تأسيس وتطبيع الاحتلال على الصعيد القانوني الدولي، فقد أصبحت أوسلو الأداة القانونية التي رسّخت الاحتلال. من المهم فهم حقيقة أنّ القانون الدولي لا يمكن فصله عن الواقع السياسي والعسكري القائم، وأنّ القانون يعمل أداة سياسية تستخدم لشرعنة الدول والأنظمة، وهذا يؤدي إلى نتائج غير مرغوبة، ما أدى إلى فقدان الأمل بهذه المنظومة لدى فلسطينيين كثيرين.



حقوق الإنسان بين الواقع والمتخيّل: موازين القوى والشرعية السياسية
إذا توفّر لدينا الوعي الكافي بحقيقة مفادها أنّ القانون أداة سياسية بيد الدول والأنظمة، نستطيع أن ندرك أنّ ما تقوم به منظومة حقوق الإنسان القائمة في ظل القانون الدولي الحالي هو ما تشرعه هذه السياسات وما تقرّه موازين القوى. كان من المقدّر أن تتجه القوى المتحاربة بعد الحرب العالمية الثانية لتأسيس منظومة حقوق إنسان - بهدف أن يستريح العالم قليلاً من عدّ ضحاياه - تطوّرت لتصبح ما هي عليه اليوم، والتي يمكن أن نجد فيها كقانونيين ما يمكّننا دوماً من إثبات ما تتعرض له شعوبنا من انتهاكات. أمّا ما لا نستطيع معه صبراً من شرعنة الاستعمار واستغلال الشعوب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلم يكن من المفترض أن يكون مسؤولية القانون وحده، بل مسؤولية العمل المتكامل ضمن مشروع وطني محدّد الأهداف يشمل الجهد الدبلوماسي- القانوني الموازي للجهد العسكري- السياسي. ولذلك فإن ما يؤخذ على ما يُطرَح اليوم في مواجهة واقع منظومة حقوق الإنسان التوجه العدمي الذي ينفي الدور الدبلوماسي القانوني من دون التركيز على واقع القصور السياسي-العسكري الذي ترسّخ في أوسلو وما نتج عنها.


بين لبرلة القضية والاعتراف بها كحركة مقاومة، ما المطلوب؟
من الصواب ألا نتعاطى مع القانون الدولي بوصفه مسلّمات، وأن نقدّر الأصوات التي خرجت لتنتقد التقرير وتضيء على عيوبه ومخرجاته التي تضع القضية في إطار ليبرالي، بل أن نرفع من حجمها ونحتويها لتشكّل ضغطاً سياسياً وعملاً دبلوماسياً. هذا ما يستدعيه العمل المتكامل الذي يعني أنّ القانون وحده ليس الحل. ولكن من الخطر الدعوة إلى تجاهل مثل هذه التقارير أو تجاهل دور العمل على الصعيد القانوني والقضائي الدولي، إذ من غير العملاني أو الصائب تجاهل واقع وجود مجتمع دولي تحكمنا به علاقات. فحتى أكثر الحركات ثورية وأكثر الشخصيات الراديكالية كانوا على احتكاك مع ومن خلال ما يسمى بـ «المجتمع الدولي». فعلى سبيل المثال، كان لرئيس الوفد الفيتنامي للمفاوضات، لي دوك ثو، دورٌ أساسيٌّ في تحقيق مطالب الثورة الفيتنامية وفي حشد الرأي العام ضد الاحتلال الأمريكي لبلاده. دوره هذا لم يكن أقل أهمية في مسار الثورة، بل شكل تكاملاً مع الدور السياسي لهو تشي منه والعسكري للجنرال جياب. وكذلك الأمر في ما يخص تشي جيفارا وتوماس سانكرا في مخاطبتهما للمجتمع الدولي في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. لعل هذه التجارب خير وحي لنا على أن بالإمكان تغيير هذا الواقع المفروض بقوانينه الحالية بشرط وجود عمل مقاوم متكامل على الصعيد العسكري والسياسي والقانوني. لا يمكن للقانوني وحده أن يفرض واقعاً مختلفاً في ظل غياب عمل مقاوم قادر على قلب موازين القوى. حتّى العمل العسكري السياسي يحتاج إلى الجهد القانوني لتثبيت إنجازاته وضمان استمراريتها. الحل الأنسب إذن، الإبقاء على النضال القانوني من خلال المحافل الدولية وأن نعي عيوب وسلبيات تعاطي هذه القوانين والتقارير مع القضية في ظل المنظومة الاستعمارية اليوم. عندها، سنستطيع من خلال قوة عسكرية وسياسية ودبلوماسية متكاملة أن نفرض واقعاً جديداً يليق بتضحياتنا في الماضي والحاضر وبمستقبل الأجيال القادمة.