لا يمكن قراءة موقف حزب الله على لسان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد حيال الترسيم البحري بأنه نقطة تحوّل في مسار التفاوض والعلاقة بين حزب الله ورئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، إلا إذا تبعته خطوة سياسية يمكن البناء عليها. فما بعد موقف الحزب وكلام رعد، هو الأهم في لحظة مفصلية على أكثر من صعيد.لا يمكن إدخال قضية الترسيم، بمعناها الوطني والاقتصادي، في ملف بازار الخلافات السياسية بين طرفين سياسيين. وقد يكون من الخطأ التعامل معها كالتعامل مع تعيينات المجلس العسكري وعدم توقيع وزير المال على المرسوم، ووضع العميدين المعيّنين بتصرف قائد الجيش لحين بت الملف نهائياً بين عون وثنائي أمل - حزب الله اللذين رفضا التعيينات في مجلس الوزراء. لكن، سياسياً، لا يمكن النظر إلى ما يحصل من خلافات بين الطرفين، إلا على أساس أنها رزمة واحدة، من التفصيل الصغير تدريجاً إلى القضية الأهم المتعلقة بالترسيم البحري.
فكلام رعد ليس مجرد كسر للصمت السياسي في اللحظة التي تكثر فيها الرهانات على التفوّق الروسي في أوكرانيا وإمكان استفادة طهران من المفاوضات في شأن الاتفاق النووي، لأن ما قاله يُبنى عليه من الآن وصاعداً في الملفات الداخلية. إذ أن أكثر من طرف قد يكون معنياً بموقف حزب الله، بغضّ النظر عن اتهام خصومه له بأنه يسعى إلى وضع يده على الملف كما سائر الملفات السياسية. لكن الأطراف الأخرى، ومنها الرئيس نبيه بري (الذي ظل متمسكاً باتفاق الإطار الذي لا علاقة له بالخطوط المتنازع عليها حالياً) ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بعيدة عن مشهد المفاوضات المباشرة. أما الجيش فهو حالياً في موقع المتفرج على التخبّط السياسي والتقني حيال الخطين 23 و29، وهو الأقل تضرراً، بالمعنى المباشر، مما يحصل. لا بل إن التخبّط السياسي قد يعيد الكرة إلى ملعبه، رغم التحفظ الكبير الذي يبديه رئيس الجمهورية والتيار الوطني حيال هذه الخطوة.
يبقى رئيس الجمهورية الذي أعلن صراحة أنه وحده يحق له إدارة المفاوضات وبسرية. وتتقاطع المعلومات حول ما جرى أخيراً في ملف الترسيم، ولماذا سكت الحزب عن التحول الذي جرى في قصر بعبدا عندما استبعد رئيس الجمهورية الخط 29 نهائياً وأعلن التمسك بالخط 23. في حين أن كل ما تم تداوله، خلال الأسابيع التي سبقت زيارة الموفد الأميركي عاموس هوكشتين وخلالها وبعدها، من أن حزب الله موافق على كل المتغيرات التي جرت، وأن عون لا يمكن أن يخطو خطوة من هذا النوع من دون التنسيق مع الحزب. لكن كلام رعد جعل الرواية المتداولة حول محاولة البعض وضع الحزب أمام الأمر الواقع أقرب إلى التصديق. إذ ثمة معلومات تتقاطع عند نقطة واحدة، وهي أن حزب الله لم يبلغ موافقته على التحول الجديد ليتم التعامل مع موقف رعد على أنه «انقلابي». وهناك من يتحدث عن أن الحزب فوجئ بموقف عون ونقل التفاوض من عند الجيش تقنياً إلى مجموعة شخصيات تصب في خانة فتح جسور علاقة متجددة مع الأميركيين، والحزب متحسّس من هذا الشق في الملف. وثمة من يتحدث في شكل تفصيلي عن أن تراكم «الأخطاء» الديبلوماسية والسياسية من ملف الحدود البحرية إلى الموقف من الحرب الروسية في أوكرانيا، جعل من المستحيل على الحزب إبقاء الملف نائماً، والاكتفاء بمعالجة الثغر في الكواليس واللقاءات المشتركة. صحيح أن الحزب مرتاح إلى قواعد ناخبيه الانتخابية ولا يحتاج إلى ملف الترسيم لكسب أصوات قاعدته، لكنه يحتاج إلى إعلان موقفه الرافض علانية. لذا قد يكون توقيت الموقف الرسمي الصادر عن الخارجية من روسيا عجّل من حركة الحزب الالتفافية، إضافة إلى أن المعلومات التي تتسرب حيال فتح خطوط واسعة مع واشنطن ساهمت في اللجوء إلى العلانية في توضيح موقف الحزب.
لكن أن يقول رعد كلامه لا يعني أن المرحلة التي تليه أصبحت واضحة.
معلومات عن أن حزب الله لم يبلغ موافقته على التحول إلى الخط 23


ما حدث من تخبط في موضوع بيان وزارة الخارجية ومحاولة رفع المسؤولية عن رئيس الجمهورية يختلف تماماً عن ملف الترسيم الذي يعتبر حزب الله أنه شريك أساسي فيه، وإن لم يجلس على طاولة التفاوض. في المقابل كان رئيس الجمهورية واضحاً في إعلان موقفه، وحرص على تكراره علانية أكثر من مرة، وهذا ما دفع الحزب إلى موقف يحسم فيه الجدل حول حقيقة موقفه. لذا سيكون الحزب أمام اختبار تصرفه كخطوات عملية بعد اليوم، كما سيكون رئيس الجمهورية أمام اختبار رد فعله حيال كلام الحزب وموقفه. وهذا الملف يختلف بطبيعته عن ملف الاشتباك بينهما حول القاضي طارق بيطار مثلاً. فأي استمرار بالتمسك بالمفاوضات على أساس خط 23 يعني اشتباكاً معلناً مع الحزب، علماً أن هناك رأياً يتحدث عن أن الحزب فتح لعون باب المخرج من الأزمة التي أوقعه فيها فريقه. ورغم أن حزب الله لم يتبن موقف الجيش ولا الخط 29 في شكل كامل، إلا أنه بدا أقرب إلى المعيار الذي اعتمد تقنياً لتحديد الخط. في وقت حاول فريق رئيس الجمهورية التعامل مع جوهر المناقشات العسكرية وآليات البحث التقني لكشف الاستراتيجيات التي وضعت للتفاوض، خدمة للخلاف السياسي والانتخابي. من هنا، ولأن ثمة مواعيد تتعلق بالترسيم والمفاوضات، فإن الجميع قد يكونون أمام مأزق واختبار حسم مواقفهم وارتداداتها على العلاقات الداخلية قبل موسم الانتخابات، فلا تصاب تحالفاتهم بسهام الخلافات ذات الطابع الإقليمي والدولي.