كما الثور يجر الى الامام، كذلك قانون الانتخاب النافذ يجر الكتل والاحزاب الى حيث لا يسعها التراجع الى الوراء. معظمها باتت اقرب الى استيعاب الفخ المقيم في القانون. وهو ان الاصل فيه توصل الكتل والاحزاب الى الحاصل المؤهِّل للفوز بالمقعد قبل التعويل على الاصوات التفضيلية المفضية الى تعيين الاسماء الفائزة. في انتخابات 2018، بدا من السهل التعامل مع القانون الجديد حينذاك، الاول يخبره لبنان بتصويت نسبي وصوت واحد تفضيلي، من جراء تفاهمات سياسية مسبقة كانت مُرساة الى حد بعيد منذ التسوية الرئاسية قبل سنتين، ناهيك بأوسع مروحة تحالفات متنقلة ما بين الدوائر الانتخابية، اتاحت للافرقاء جميعاً ان يكون بعضهم حليفاً مباشراً في الانتخابات للبعض الآخر، وفي الوقت نفسه حليفاً غير مباشر لخصمه.اوحت الطريقة التي أُخرِج بها القانون في مجلس النواب، وقد ضمن الاقطاب سلفاً حصصهم وإن بهامش خطأ ضئيل يوجبه التصويت النسبي بصوت افضلي، بأن لا مفاجآت اساسية متوقعة لأي منهم. ذهبت الكتل الى انتخابات 2018 تبعاً لاتفاق سياسي مثلته بداية التسوية الرئاسية بإبرازها تقاطعاً شيعياً - سنّياً - مسيحياً غير مسبوق، ثم وجود الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة، وصولاً الى تجاهل الخصومة مع حزب الله وسلاحه. بذلك، قبل التدرّب الفعلي على قانون الانتخاب، نجح امرار الاستحقاق بسلسلة تفاهمات اتاحت لتيار المستقبل التحالف مع التيار الوطني الحر يميناً، ومع حزب القوات اللبنانية يساراً، مثلما اتاحت لوليد جنبلاط التحالف مع تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية دونما ان يتأذى من مواجهته التيار الوطني الحر.
في انتخابات نيابية عامة كانت الاولى بعد سنة ونصف سنة في عمر العهد، غدا الحريري وتيار المستقبل حجر الطاحون الذي يدور الجميع من حوله، بأن وافق اولاً على ما كان رفضه عام 2013 ابان مناقشة اقتراح القانون الارثوذكسي بذريعة التصويت الطائفي، ثم تولت حكومته اجراء الانتخابات كي يعود الى السرايا مجدداً من بعدها. بانتهاء انتخابات 2018 بالاحجام التي آلت اليها، خرجت الكتل جميعاً مرتاحة، غير مخدوعة او مضلَّلة او مغشوشة. كان امام العهد آنذاك متسع طويل من الوقت كي ينخرط الجميع فيه، من ضمن فروق بسيطة. مظلته الفعلية حزب الله ضامن التوازنات تلك.
لم ينجم عن الاختبار الاول ذاك لقانون الانتخاب الدرس الفعلي للاستحقاق التالي. ما ان انهارت التسوية الرئاسية، ومن ثم تداعياتها التي افضت الى عداوات علنية فجة لم يوحِ بمثلها قبلاً اي من الافرقاء المعنيين، خصوصاً ما بين فريقي رئيسي الجمهورية والحكومة، بات من المتعذر استيعاب آلية قانون الانتخاب النافذ. ما صار يقال الآن، على ابواب انتخابات 2022، انه احال الناخبين ارقاماً وحواصل محسوبة، تركض وراءها لوائح الكتل للفوز بالمقعد. اكتشِف سرّ قانون الحاصل المؤهِّل والصوت التفضيلي: وهو حاجة اللوائح، واحدة تلو اخرى، ليس الى مرشحين هم نواب مفترضون سلفاً، بل الى تحميلها اوزاناً اضافية ثقيلة من اجل توفير حاصل الفوز بالمقعد اولاً. ذلك ما برر ذهاب الكتل والاحزاب الى التحالف مع شخصيات محلية، غير حزبية او مستقلة بإيحاءات ملتبسة، في الدائرة يُظن انها قادرة على الاستقطاب والتجيير، بغية مضاعفة اصوات الحاصل. في نهاية المطاف، بعد الوصول اليه، تعوّل على الاقتراع المنضبط، الحزبي المنتظم في غالبيته والمحسوب سلفاً والمؤهل للفوز بالاصوات التفضيلية.
للمرة الثانية تجرّب الكتل والاحزاب، المعتادة في معظمها في الحقبة السورية المنصرمة على الفوز الهيّن والسهل، آلية تصويت تجعل بعضها غير القليل يترحم على قوانين الانتخاب المتتالية، بالتصويت الاكثري، التي عرفتها التجربة البرلمانية بشقيها: ابتلاع الـ51 في المئة من الاصوات كل المقاعد بلا استثناء، ولوائح المحادل والبوسطات.
بعد قوانين المحادل والبوسطات، قانون الحواصل والارقام


لم يعد شيء من ذلك كله قائماً اليوم. عهد الرئيس ميشال عون في اشهره الاخيرة. الحريري اخرج نفسه وتياره من المعادلة السياسية الى وقت لا يسعه هو التكهن به. معظم الكتل حائرة اذ تجد نفسها - ربما باستثناء الثنائي الشيعي - بين خصومها اكثر منها بين حلفائها. ذلك ما فسّر ولا يزال، قبل اسبوعين فقط من اقفال باب الترشيح، ان العدد المسجَّل الى الآن لم يزد عن 18 مرشحاً لانتخابات 15 ايار. تتزامن هذه المفارقة مع ترشيحات اعلامية واعلانية في الوقت نفسه، ربما جعلت المصادفة ان المعبّرين عنها هي الاحزاب المسيحية فحسب: التيار الوطني الحر وحزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية وحزب الوطنيين الاحرار وحزب الكتلة الوطنية. افصحت للعلن عن عدد من مرشحيها، ومعظمهم حزبيون عائدون او محتملون، دونما الافصاح عن المرشحين الحلفاء، وعن التحالفات المتوقعة. الثنائي الشيعي، المنغلق على نفسه والمكتفي بذاته، لا يحتاج الى احد مقدار ما يحتاج اليه الآخرون لا سيما التيار الوطني الحر. ثلاثة افرقاء اساسيين هم التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي سيكتشفون ان خصومهم اصبحوا هذه المرة في عقر الدار لا وراء الابواب.
بالتأكيد هؤلاء جميعاً عازمون على الترشح وخوض الانتخابات المقبلة، وكل منهم يعثر في كل دائرة انتخابية - وهو يبحث عن حل - على مشكلة.