تضمّن مشروع موازنة 2021، في المادة 101، طلب وزارة المالية من الإدارات والمؤسسات العامة والمشاريع المشتركة والشركات المختلطة تزويدها «بالمعلومات التي تملكها عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية ضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون...». هذا الطلب عزّز المخاوف من نيات مبيتة حيال أملاك الدولة، خصوصاً مع تنامي خطاب مسؤولين في السلطة وجمعية المصارف حول بيع أملاك الدولة.في ندوة بعنوان «وينيّ أراضي الدولة»، عُقدت أول من أمس، قدّم «استديو أشغال عامة» بحثاً شاملاً حول الأملاك العقارية للدولة، استند إلى سجلات وزارة الماليّة، قدّر مساحة أملاك الدولة العقارية بما يراوح بين 20% و25% من مساحة لبنان، وكشف الفوضى في تعامل الدولة مع هذه الأملاك «لعدم وجود نظام معلومات دقيق يحدد بوضوح بيانات هذه العقارات، بما في ذلك عددها وحدودها ومساحتها وملكيتها واستخداماتها»، إذ إن النسخة الوحيدة من الملف الذي يتضمن بيانات العقارات في وزارة المالية يفتقد إلى «التنزيل الدوري لبيانات العقارات الجديدة التي دخلت في ملك الدولة بالاستملاك أو الشراء أو غيرها، كما لا تحذف منه العقارات التي خرجت من ملك الدولة»، إضافة إلى «نقص بيانات المساحة لعدد هائل من العقارات»، ناهيك عن «عدد من البيانات المبهمة» و«العديد من الأخطاء المطبعية وتكرار لبعض البيانات».
بحسب قانون الملكية العقارية (القرار 3339/1930)، هناك 5 أنواع من أراضي الدولة، تنضوي تحت فئتين رئيسيتين: الأملاك العمومية والأملاك الخصوصية. ويعزّز تعامل الدولة، تاريخياً، مع أملاكها العمومية وتخليها عن العديد منها لجهات خاصة لمصالح نفعية وزبائنية، المخاوف من الطريقة التي قد تتعامل معها السلطة مع هذه الأملاك في إطار أي خطة مستقبلية لتوزيع الخسائر.
أملاك الدولة العمومية، أو ما يعرف بـ «الأراضي المتروكة المحمية»، هي التي تستعمل لمصلحة عمومية، ولا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن ولا تسجل في سجل الملكية ولا تعطى لها أرقام عقارات. وهي تضم مجاري الأنهار وضفافها والمجاري الشتوية وشواطئ البحار والشلالات والبحيرات وقنوات الري والتجفيف والطرقات والممرات والأرصفة العامة وغيرها. ولأن هذه الأملاك محمية لا يمكن التصرف بها أو بيعها، «ابتكرت السلطة مخارج مقوننة للتخلي عن أملاك الدولة العمومية عبر إصدار ما يسمى مراسيم الإسقاط التي تسقط صفة المنفعة العمومية عن الأملاك ما يشرّع التصرف بها». قد يبرر طلب الإسقاط في بعض الحالات بالمصلحة العامة (كإسقاط أملاك عامة لبناء مرفق عام كمدرسة رسمية مثلاً)، إلا أن 83% من المستفيدين من مراسيم الإسقاط كانوا جهات خاصة (فرد، شركة، وقف، نقابة، جمعية...) وغالباً من مالكي العقارات المجاورة. وارتبطت هذه المراسيم «بنوع من الزبائنية، عبر تقديم أقسام من الأملاك العمومية للمقتدرين وأصحاب النفوذ وللمقربين من الجهات السياسية أو لشراء الولاءات السياسية». وقد أُصدر العدد الأكبر من مراسيم الإسقاط في الفترة الممتدة بين الاستقلال واندلاع الحرب الأهلية (403 مراسيم من 831)، تليها الفترة بين 2005 و2021 (172 مرسوماً). جغرافياً، حصدت محافظتا جبل لبنان وكسروان - جبيل النسبة الأكبر من مراسيم الإسقاط. وقد «سجّل قضاء المتن النسبة الأعلى من مراسيم الإسقاط»، إذ «تسارعت نسبة إسقاط الأملاك النهرية بعد 2006، ويعد استلام التيار الوطني الحر وزارة الطاقة والمياه عام 2008. وارتبطت هذه النسبة المرتفعة في قضاء المتن في مراحل سابقة ببعض القيادات المحليّة كآل المر والجميّل». كذلك يبرز دور زعامات محليّة في دعم مراسيم الإسقاط في صيدا وصور وطرابلس (بين 1946 و1956) وزحلة (بنسبة مرتفعة بين 1949 و1975) بدعم من آل عسيران وكرامي وكبارة وسكاف.
وكشف البحث عن محفظة عقارية كبيرة يملكها مصرف لبنان، إذ «يصل عدد أملاك الدولة العقارية غير المبنية المسجلة باسمه إلى 1037 عقاراً (723 ملك، و304 أميري و10 أنواع أخرى)، يملك المصرف كامل الأسهم في بعضها وجزءاً من الأسهم في بعضها الآخر. وتصل المساحة الإجمالية التي يملكها على صعيد لبنان إلى 43 مليون متر مربع، من دون احتساب حصته من شركة إنترا التي تملك عدداً ملحوظاً من العقارات». وتتركز عقارات المصرف، من حيث العدد، في أقضية عكار وزغرتا والبترون والشوف، ومن حيث المساحة في قضاء بعلبك (أكثر من 42 مليون متر مربع)، يليه قضاء صور (4 ملايين متر مربع).
تنبع أهمية التركيز على محفظة مصرف لبنان العقارية إلى دوره المحوري في الانهيار الاقتصادي والمالي، بالتالي كيفية تعامله مع أملاكه في إطار أي خطة لتقسيم الخسائر، خصوصاً أن أحداث العامين الماضيين كشفت مدى استقلاليته وحجم السرية التي تحوط أعماله.
أما في ما يتعلق بأملاك الدولة الخصوصية (الأراضي الملك والأميرية والمتروكة مرفقة والموات) فيجيز القانون للدولة أن تتصرف بها تصرف الأفراد العاديين بملكهم الخاص، كأن تبيعها أو تتنازل عنها أو تؤجرها ضمن شروط معينة. وتشكل الأراضي الأميرية «النسبة الأكبر من أملاك الدولة العقارية، إذ يبلغ عددها 31907 عقارات، أي 52% من إجمالي الأملاك». وأهمية الأراضي الأميرية، إضافة إلى عددها ومساحتها (يضم قضاء بعلبك وحده أكثر من 33% من الأراضي الأميرية، وقضاء البقاع الغربي 23% منها، وقضاء راشيا 17%) أنها تمنح أي شخص حق التصرف بها، من دون دفع أي بدل للدولة، كما أن حق التصرف بها غير محصور بحاملي الجنسية اللبنانية، وهو ما استفاد منه تاريخياً الفلسطينيون في لبنان في أماكن تواجدهم.
تصل مساحة العقارات الإجمالية التي يملك مصرف لبنان فيها أسهماً إلى أكثر من 42 مليون متر مربع


التعامل مع الأراضي الأميرية مستقبلاً قد يولّد أزمات عدة ذات ارتدادات اجتماعية هائلة خصوصاً أن «انضواءها تحت أملاك الدولة ساهم في حمايتها من مضاربات السوق وعدم تراكمها بيد الأقلية المقتدرة مادياً وتشريعياً وسياسياً». لذلك، يحذر البحث من مخاطر اقتراح قانون دمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك المقدم من النائبين غازي زعيتر وحسين الحاج حسن الذي يطرح إلغاء حق التصرف في الأراضي الأميرية وتحويله إلى حق ملكية، «بما معناه تخلي الدولة عن ملكها من دون أي مقابل»، ما قد يؤدي إلى «ضرب الأراضي الزراعية، كما أن خصخصة هذه الأراضي سيطلق حركة بيعها وشرائها، ما سيؤدي إلى تراكمها بيد الأقلية النافذة مالياً وسياسياً»، إضافة إلى الآثار الكارثية لخطوة كهذه على الفلسطينيين الذين يستفيدون حالياً من الإنتاج الزراعي للأراضي الأميرية وسيحرمون منه في حال دمج الأراضي الأميرية بالأراضي الملك لكونهم محرومين من التملك في لبنان بموجب القانون رقم 296 الصادر عام 2001. كما تطرق البحث إلى الأراضي المشاع مشيراً إلى وجود مشاعات تحت مسمى البيدر (125 عقاراً) والمرعى (408) وعموم (1253)، و2773 عقاراً مسجلة تحت اسم مشاع. ولفت إلى أن أراضي المشاعات «لطالما تعرضت لاعتداءات وعمليات استيلاء من قبل السياسيين ليتم تحويل بعضها إلى أملاك خاصة بطرق مشبوهة وغير قانونية».



أراضي للسكن بلا سكن
يكشف البحث أن الدولة تملك 650 عقاراً (على الأقل) مخصصة للسكن ومسجّلة بأسماء وزارات أو مصالح أو مديريات تعنى بالسكن. وقد استملكت الدولة هذه العقارات منذ عام 1956 بهدف إنشاء مشاريع سكنية في مناطق تضررت من كوارث طبيعية أو لمعالجة أزمة السكن. وبعض هذه العقارات «تحتوي اليوم على مشاريع سكنية مكتظة أهملتها الدولة عبر السنين حتى باتت تعاني من مشاكل إنشائية وخدماتية، فيما البعض الآخر متاح لإنشاء مشاريع سكنية ملحة إلا أن الدولة غائبة تماماً عن دورها» في هذا المجال.