أُقحمت الجامعة اللبنانية في بازار السياسة وصارت جزءاً من المحاصصات وفيها الكثير من المواقع التي تعدّ، بنظر أهل السلطة، غنائم تناحروا ويتناحرون عليها. هذا التناحر في أثناء رئاسة الوزير أسعد دياب، في حكومة الرئيس رفيق الحريري عام 1996، أدى الى اتخاذ مجلس الوزراء قراراً بنقل صلاحيات أساسية من مجلس الجامعة الى مجلس الوزراء، وتحديداً صلاحيات التعاقد مع الأساتذة بالساعة أو بالتفرغ في الجامعة. وقد تسبب هذا القرار بوضع ملف التفرغ في دائرة التجاذب الطائفي والمذهبي وعرّض الأساتذة للابتزاز السياسي في غياب آليات واضحة لاختيار المتفرغين، ما سمح بالاستنسابية المبنية على الزبائنية على أنواعها.لم يكن ملف التفرغ الوحيد القابل للاستثمار السياسي للقوى المؤثرة على الجامعة، بل إن دائرة الاستثمار واسعة جداً، تبدأ بالطلاب والموظفين والأساتذة، وصولاً الى كل المواقع الإدارية والتمثيلية في المجالس الأكاديمية ورابطة الأساتذة المتفرغين. وحبذا لو كان هذا الاهتمام بالمواقع في خدمة الجامعة ونهضتها. لكنه، ويا للأسف، كان مصادرة لقرار الجامعة الحر بهدف ترسيخ النفوذ وتوزيع المناصب على الأزلام والمحاسيب، من دون الالتفات الى الجانب الأكاديمي والكفاءة في إدارة الملفات. وهذه القوى نفسها المندفعة، بقوة وبشراسة، وراء كل تفصيل فيه إمكانية للتوظيف السياسي نراها تنكفئ الى الخطوط الخلفية وتتصرف ببرودة تجاه القضايا الجامعية الملحة، وتحاول دائماً تنفيس كل تحرك جدي يهدف الى الضغط على السلطة لإقرار مطالب محقّة، من خلال استغلال نفوذها بين الطلاب لوضعهم في مواجهة الأساتذة.
إن حق الطالب في التعليم مطلوب من السلطة وليس من الأستاذ، كما أن حق الأستاذ في الإضراب حق دستوري لا يلغيه حق الطالب في التعلّم، والسلطة مسؤولة عن حق هذا وذاك، ومن واجبها تأمينهما وإلا تعتبر سلطة فاشلة.
تعاني الجامعة اليوم من أزمة خانقة تهدد استمراريتها كمؤسسة تضمن التعليم الجامعي لحوالي ثلثي طلاب لبنان بسبب ذهنية السلطة في التعاطي معها، وخصوصاً أن موازنة 2019 المبنية على سعر الدولار 1500 ليرة لا يمكنها أن تشغل الجامعة لشهر واحد، كما أن الرواتب التي تلاشت لم تعد كافية لفواتير المولّد وبعض الأمور الأساسية الأخرى، إضافة الى انهيار التقديمات الطبية التي كان يلبيها صندوق التعاضد، ليأتي وزير التوقيع الثالث ويقتصّ من أساتذتها بحرمانهم من حقوقهم كموظفين في القطاع العام، ويستثنيهم من المساعدة الاجتماعية، لا بل يضع بنوداً لا تسمح لهم بالاستفادة حتى مما تحصّله الجامعة من خلال عملها في مجال فحوصات الكورونا في المطار. وهو، بذلك، يقول لكل أستاذ قادر على تأمين عمل في الخارج بأن يغادر، ما يعني قتلاً للجامعة خلال فترة لا تزيد على عشر سنوات وترك 86000 طالب ليتوزعوا على الجامعات الخاصة بما يرضي القوى السياسية التي لديها جامعاتها، وليصبح التعليم الجامعي للميسورين فقط.
نحن اليوم أمام موازنة قاتلة وضعتها جهات تبحث عن غطاء لارتكاباتها بحق الدولة والناس. وإذا مرّت فهذا يعني أن هذه القوى التي أوغلت في توزيع المغانم تضع اليوم الجامعة على المقصلة، وعلى رابطة الأساتذة المتفرغين أن تحسم خيارها بوضع القوى السياسية المشاركة فيها والمشاركة في السلطة أيضاً أمام مسؤولياتها بالتراجع عن هذه الموازنة أو التمرد عليها، وخوض الصراع ضدها بكل الوسائل القانونية المتاحة.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية