في الإعلام، تحظر واشنطن بث الدعاية المموّلة من الحكومة الأميركية والمخصّصة للاستهلاك الخارجي داخل الولايات المتحدة. فقناة الحرة وصوت أميركا وغيرهما من أدوات البروباغندا لا تصلح إلّا لإصلاح الشعوب المتخلّفة التي تهيمن عليها إمبراطورية عصرنا. الأمر نفسه ينطبق على «الصندوق الوطني للديموقراطية» (NED). ديموقراطيته الوطنية غير صالحة للاستهلاك المحلي، فهي فقط للنشر في الدول التي تراها واشنطن مارقة. قد تحتاج الحكومة ووسائل الإعلام والناخبون والمرشحون الأميركيون إلى النصائح حول كيفية إدارة العملية الانتخابية بشكل آمن وديموقراطي أكثر منّا كي لا تتكرر غزوة الكابيتول التي حدثت العام الماضي. لكن إلى أن تلحظ الولايات المتحدة عيوب ديموقراطيتها، فهي لن تنفكّ عن التدخل في ديموقراطية الدول التي لا تعجبها خيارات شعوبها، و«NED» هو إحدى أدوات هذا التدخل
يرجع تاريخ الاستثمار الأميركي الرسمي في المنظّمات غير الحكومية في ما تسمى «دول العالم الثالث» والدول الخصمة للأميركيين إلى سبعينيات القرن الماضي. رئيس البنك الدولي (1968 - 1981) وزير الدفاع الأميركي الأسبق، المهزوم في فييتنام، روبرت ماكنمارا كان من أول من تحدّثوا علناً عن الفكرة في خطاب له في مدينة نيروبي الكينية (24 أيلول عام 1973) في اجتماع مجلس محافظي مؤسسة البنك الدولي. يومها، حدّد ماكنمارا السياسة الليبرالية الجديدة القائمة على إعطاء المنظمات غير الحكومية دور الدولة ومؤسساتها، لا سيما دورها التدخُّلي في الدورة الاقتصادية، واعتبر أنّ «التجربة تثبت أنّ هناك فرصة أكبر للنجاح إذا وفّرت المؤسسات المشاركة الشعبية والقيادة المحلية واللامركزية في السلطة».
مشهد الإنتقال الديموقراطي بين ترامب وبايدن في 6 كانون الثاني 2021

بعد فوز رونالد ريغان بانتخابات الرئاسة عام 1982، دخل إلى البيت الأبيض وفي جعبته ملفّات أعدّها له المحافظون الجدد، خصوصاً عرّابهم إرفينغ كريستول، وكبار منظّري المذهب النيوليبرالي أمثال ميلتون فريدمان. صادق ريغان على تأسيس «الصندوق الوطني للديموقراطية» (NED) عام 1983 بعد إقرار قانون تأسيسه في الكونغرس، لتموّل واشنطن عبره، بشكل مركّز، جمعيات ومنظّمات غير حكومية تعنى بـ«الديموقراطية» و«حقوق الإنسان» في دول المعسكر الشرقي الذي قادته موسكو.
«الكثير مما نفعله اليوم كانت تفعله سراً وكالة الاستخبارات المركزية قبل 25 عاماً»، قال آلان وينستاين، أحد مؤسّسي NED، وصِلَة الوصل بين بوريس يلتسن وإدارة جورج بوش الأب بين 1988 و1991. اعتراف وينستاين الوقح والصريح جاء في مقال للصحافي المقرّب من الـ CIA ديفيد إغناطيوس (أيلول 1991) كشف فيه معلومات كثيرة عن العمليات السرّية الأميركية لقلب أنظمة الحكم حول العالم.
استثمرت إدارة بيل كلينتون في NED للانقضاض على أنظمة دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وتضخّمت الموازنات المرصودة للصندوق - وغيره من الأذرع - في عهد جورج بوش الابن الذي استثمر مجدّداً في هذا النهج لتعزيز أدوات التأثير الناعم لقلب أنظمة الحكم، بالتوازي مع «الأدوات الصلبة» عبر الغزو المباشر لأفغانستان والعراق. أصبح برنامج عمل المؤسسات الأميركية المعنيّة بالتأثير في ساحات المواجهة مع الأنظمة المصنَّفة أميركياً بأنّها «مارقة»، يتطلّب التوسّع والتنويع في البرامج المراد تنفيذها عبر منظّمات «المجتمع المدني»، بعدما فتحت تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي شهيّة الإمبراطورية الأميركية على استثمار مجدٍ وغير مكلف مقارنة بالحروب العسكرية المباشرة.
فتحت تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي شهيّة واشنطن على استثمار مجدٍ وغير مكلف مقارنة بالحروب العسكرية المباشرة


لتجنّب تبادل الاتهامات السياسية التي ظهرت بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي عقب فضيحة «ووترغيت»، تقرّر في واشنطن أن يُدار عمل NED من قبل الحزبَين، مع وجود قسم خاص لكل منهما داخل المؤسسة، هما: «المعهد الديموقراطي الوطني» (NDI)، و«المعهد الجمهوري الدولي» (IRI). تغيّر اسم المؤسسة مرات عدّة، وكانت إحدى المجموعات التأسيسية له تُدعى «المركز الأميركي للتضامن الدولي في العمل» الذي عُرِف باسم «مركز التضامن». وانبثق الأخير مما سُمّي «معهد النقابات الحرّة» (FTUI) الذي أُسس عام 1977 وأداره الاتحاد النقابي الرئيسي للولايات المتحدة. إلى جانب هذا الهيكل المسمَّى زوراً «نقابي»، استحدث العقل النيوليبرالي كياناً موازياً باسم «مركز المشروعات الدولية الخاصة» (CIPE) مثّل بشكل علني مصالح الشركات المملوكة من قبل رأسماليي الحزبين.
سُجّلت NED كمنظّمة غير ربحية بموجب القسم 501 (c) من «قانون خدمة الإيرادات الداخلية الأميركية». وينصّ هذا القسم على أنّ المنظّمات المؤهلة لهذا التسجيل «ممنوع أن تكون منظّمات عمل سياسي، أي أنه لا يجوز لها محاولة التأثير في التشريع كجزء كبير من أنشطتها، ولا يجوز لها المشاركة في أي نشاط/ حملة لصالح أو ضد المرشّحين السياسيين». لكن، وللمفارقة، ولوقاحة الأميركيين، فإن مهمّة NED الأساسية هي التدخّل السياسي في شؤون الدول وقلب أنظمة حكمها وفق مصالحهم.
لعل أولى المهام التي نفّذها الأميركيون عبر NED داخل مناطق النفوذ السوفياتي حصلت في بولندا عبر دعم «حركة تضامن» المناهضة للشيوعية. في بولندا، وفي كثير من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، يشارك NED منذ تسعينيات القرن الماضي مع مؤسسات ومنظّمات أخرى كمؤسسات جورج سوروس في تشكيل أنظمة الحكم وفق المصالح الأميركية، عبر «المعهد الجمهوري الدولي» (IRI) و«المعهد الديموقراطي الوطني» (NDI). وذكر الباحثان الأميركيان في جامعة بورتلاند جيرالد سوسمان وساشا كريدر في بحثهما «ثورات القالب: التسويق الأميركي لتغيير الأنظمة في أوروبا الشرقية»، أن أحد مفاتيح هزيمة من تصنّفه واشنطن «زعيماً غير جدير» في أيّ من الجمهوريات السوفياتية السابقة يتمثّل بتوحيد المعارضة المتباينة خلف مرشح سياسي واحد. تحرّك IRI وNDI بحرّية في أنحاء أوروبا الشرقية باعتماد التكتيك السالف الذكر. وكان أول تطبيق نموذجي في بلغاريا عام 1996، حيث «اكتشف» المعهدان أنّ «المنظّمات غير الحكومية يمكن أن تميل في الانتخابات لصالح المرشح المفضَّل لأميركا»، من خلال توحيد المعارضة، ثم تمويل استطلاعات الرأي التي تدعم مرشّحها للتأثير في توجّهات الناخبين الحديثي عهد بتجارب انتخابات مغايرة للتي عرفوها لعقود. وساهم NDI في هذا المشروع من خلال تمويل «الجمعية البلغارية للانتخابات العادلة والحقوق المدنية» للإشراف على استطلاعات الرأي في ذلك العام.


بحسب سوسمان وكريدر، رتّب NED وأذرعه استطلاعات الرأي في رومانيا عام 1997 عبر دعم جمعية Pro Democracy؛ وفي سلوفاكيا عام 1998 حيث أجرى المعهد الجمهوري الدولي (IRI) «جدولة موازية للأصوات»، وفي كرواتيا عام 1999 بالشراكة مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID) و«فريدوم هاوس»، وتمويل دولي آخر لمجموعة مراقبة الاقتراع المسماة «المواطنون المنظَّمون لمراقبة الانتخابات GONG». في يوغوسلافيا السابقة، عندما بدا أن ميلوسيفيتش عرضة للهزيمة قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2000، أمّن NDI سفر قادة أحزاب المعارضة الصربية إلى بولندا لـ «طلب المشورة» من نشطاء حزبيين بولنديين كانوا قد فازوا على أحزاب اليسار في انتخابات سابقة. استعان NDI بشركات Penn وSchoen وBerland الأميركية المتخصّصة باستطلاعات الرأي، التي خلُصَت إلى أنّ المحامي الدستوري المناهض للشيوعية فيتشسلاف كوستونيتشا سيكون الشخص الأكثر ملاءمة للمراهنة عليه في السباق الانتخابي. بناءً على التوصية، استدعت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت ووزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر المرشحَين الرئاسيَّين (عمدة بلغراد زوران دينديتش وزعيم حزب المعارضة فوك دراسكوفيتش) إلى بودابست، وتم الضغط عليهما للانسحاب من السباق الانتخابي. وكان IRI وNDI أصدرا توصيات مماثلة في كل من بلغاريا ورومانيا، مما دفع زعماء الأحزاب الموالين للغرب إلى الإذعان لما تريده واشنطن.

أنقر هنا لرؤية بيانات تمويل مؤسسة «الصندوق الوطني للديموقراطية-NED» في لبنان بين عامَي 2016 و2020.


هذا جزء من قصص NED وأذرعه في الاستثمار في المنظّمات والجمعيات المحلّية للتأثير في نتائج انتخابات دول أوروبا الشرقية وتشكيل أنظمة حكمها وفق الأجندة الأميركية، وفي بلدان أخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، نشط الصندوق دائماً لتلبية الهدف عينه.