رهن «مسار الطلقة»
لم تكن الرصاصة التي قتلت تلك الطفلة قد انطلقت انتقاماً، بل في ابتهاج مجموعة احتفلت بنجاح أحدهم. ولم يُقتل اللاجئ السوري منتصف الليل في مخيم في بعلبك بسبب خلاف عائلي، ولكن برصاصة طائشة أُطلقت في الهواء احتفالاً برأس السنة. مئات الضحايا لقوا حتفهم برصاص أطلق من أسلحة غير مشروعة في أعراس أو جنازات أو نزاعات فردية بسيطة. ذنبهم الوحيد أنهم كانوا في المكان الخطأ. بالرغم من موافقة مجلس النواب على القانون رقم 71/2016 الذي يجرّم إطلاق عيارات نارية بالهواء ويعاقب الرماة بالسجن، استمرت الظاهرة في الازدياد، ما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا. ببساطة، لن يكون هذا القانون رادعاً لأولئك المتهورين، إذا لم يكن هناك تحقيق جنائي بالستي دقيق يحدد الجناة ويقدّمهم للعدالة.



يشير التحقيق الجنائي البالستي Forensic Ballistics إلى علم الأسلحة النارية والمقذوفات في ما يتعلق بإعادة بناء الأحداث التي أدت إلى الإصابة بطلق ناري، حيث يستخدم الخبراء جوانب تقنية مثل مسار الطلقة ومكان وجود الرصاصة والمظاريف الفارغة بشكل أساسي. من خلال تتبع مسار الرصاصة، يمكن للخبير تحديد موضع جسد الضحية وقت إطلاق النار وتقديم معلومات قيّمة للتحقيق كزاوية التأثير، وموقع مطلق النار وارتفاعه. كما يمكن للخبير تحديد مسافة إطلاق النار من خلال الفحص الدقيق لخصائص الطلقات النارية ومخلّفاتها، اعتماداً على نوع السلاح الناري والذخيرة.

مخلّفات إطلاق النار
يمكن أن يحدّد اختبار مخلفات إطلاق النار ما إذا كان الشخص قد أطلق عياراً نارياً أو كان على مقربة منه وقت إطلاق النار، فالمواد الكيميائية المكونة للطلقة (الرصاص، الباريوم، الأنتيمون)، المعادن، والبارود غير المحترق تستقر على الأسطح القريبة مثل جلد الإنسان وملابسه. ومع ذلك، قد تقلّل بعض القيود من القيمة الاثباتية لمخلفات إطلاق النار كدليل في قاعة المحكمة. أحد القيود هو قابلية إزالة تلك المواد بسهولة عن الجلد (أو أي سطح) من خلال غسل اليدين، أو ببساطة عن طريق وضع اليد في الجيب. لذلك، لا يمكن القول على وجه الیقین إن غياب مخلفات إطلاق النار عن يدي المشتبه به يدل على أن هذا الشخص لم یطلق النار.


قيد آخر هو عدم وجود دليل قاطع ما إذا كان وجود مخلفات إطلاق النار على يدي المشتبه به/الضحية یعني بالضرورة أنه هو من أقدم على إطلاق النار. الخبراء قادرون على إثبات وجود تلك الجزئيات على يدي أحدهم، إلّا انهم لا يستطيعون تحديد كيفية وصولها. یمكن تفسیر وجود مخلفات إطلاق النار على یدي الشخص بثلاثة احتمالات: الأول، الشخص قام فعلاً بإطلاق النار من السلاح. الثاني، الشخص كان على مقربة من سلاح ناري تم إطلاق النار منه. الثالث، الشخص قام بلمس شيء یحتوي على مخلفات إطلاق النار، كطاولة مثلاً.
أمّا في لبنان، يجري الاعتماد على هذا الدليل الظرفي بشكل أساسي خلال التحقيقات الجنائية. فيُعتبَر وجود مخلفات إطلاق النار على يدي الضحية مثلاً دليلاً وثيقاً على أنها أقدمت على الانتحار، علماً أن سبب وجود تلك الجزئيات قد يكون قرب الضحية من السلاح الناري أثناء جريمة القتل المفبركة كانتحار. كما يتم تبرئة مشتبه بهم من جرائم قتل بسبب عدم تواجد تلك الجزئيات على أيديهم، ما قد يضلل التحقيق. من المفترض الحصول على عینات فحص مخلفات إطلاق النار عن الیدین فوراً في مكان وقوع الجریمة، لأن التأخیر في الحصول على هذه العينات، أو حركات الجاني، أو غسل الیدین قبل جمعها سيدمّر بقایا جزیئات مخلفات الطلق.

«توتير» مسرح الجريمة


يستخدم الخبراء «الأوتار» في مسرح الجريمة بهدف تحديد مصدر تناثر الدم ومسار الرصاص. ويُعدّ «توتير» (stringing) مسرح الجريمة أثناء إعادة بناء الأحداث طريقة بسيطة وغير مكلفة ودقيقة نسبياً لإثبات مسار الرصاصة.
ومن أجل تحديد الموقع الدقيق لإطلاق النار، يطبّق الخبراء المعادلات الهندسية - باستخدام حساب المثلثات- لتحديد زوايا التأثير والتصادم ومسافة مطلق النار وارتفاعه. من ناحية أخرى، يظل استخدام الخيط أسلوباً واحداً فقط من بين عدة طرق لتحديد نقطة منشأ الطلقة النارية، حيث يُعدّ الليزر مفيداً جداً أيضاً في بعض مواقع الجريمة وأداة توضيحية ممتازة في المحكمة.

الرادع الأقوى
أثناء التحقيقات في حوادث الرصاص الطائش في لبنان، من المفترض الاعتماد على الطرق العلمية لتحديد مسار الطلقة وموقع وارتفاع مطلق النار. حسب المعايير المهنية، يُستخدَم العلم الجنائي البالستي لرسم وتحليل المسار التقريبي للرصاصة، وتحديد ما إذا كانت رصاصة طائشة فعلاً، أم أن المجرم يتستّر وراء سيناريو مفبرك.
بالإضافة إلى نوع الطلقة والسلاح الناري، من المفترض أخذ عوامل عدة بعين الاعتبار يمكن أن تؤثر على حركة الرصاصة، كشدة الريّاح ونسبة الرطوبة يوم الحادثة على سبيل المثال. أضف الى ذلك الزاوية التي أُطلقت النار منها، إذ إن سرعة الطلقة المرتدة تعتمد جزئياً على هذه الزاوية. فالرصاص الذي يُطلَق بشكل مستقيم للأعلى يعود بسرعات منخفضة، أمّا تلك التي تُطلَق بزاوية منخفضة وتتبع مساراً مكافئاً(Parabolic)، فتميل إلى أن تكون أكثر استقراراً من الناحية الديناميكية الهوائية. ويمكن أن تهبط على بعد عدة كيلومترات ، بما يكفي بحيث لا يُسمع صوت السلاح الذي أطلقها، وبالتالي لا يكون سبب الوفاة واضحاً على الفور.
من خلال تطبيق العلم الجنائي البالستي، يمكن للخبير تحديد المسار التقريبي للطلقة، زاوية الإطلاق، ارتفاع مطلق النار، سرعة الطلقة، والوقت والمسافة التي قطعتها. كل تلك المعلومات كفيلة بتحديد مطلق النار، وتشكل بالتالي الرادع الوحيد لتلك التصرفات المتهورة.

شيفرة جنائية


إذا تمكن المحققون من العثور على سلاح مشتبه به، يُجري الخبراء اختبار إطلاق النار (Test Fire) عبر جهاز معيّن للحصول على عينات مقارنة (Bullet recovery system). يسمح هذا للخبراء بإجراء المقارنة بين الرصاصة التي عُثر عليها في مسرح الجريمة وبين رصاصات المقارنة، لتحديد ما إذا كانت الرصاصة قد أُطلقت من السلاح الناري المشتبه به. ينتقل الخبير في مقارنته من الخصائص العامة كالعيار ونمط الانطباعات إلى التفاصيل الفردية الناتجة عن العيوب في السلاح الناري والعلامات الناتجة عن التآكل أو التلف. يستخدم الخبراء «مجهر مقارنة» لمقارنة عينتين جنباً إلى جنب من خلال مجهرين ضوئيين مركبين، بنظام يسمى «الجسر البصري» الذي يتكون من المرايا والعدسات التي تسمح بمراقبة كلتا العينتين في وقت واحد.

بصمات باليستية


في كل مرة يتم فيها إطلاق النار، يترك السلاح الناري علامات مجهرية على الرصاصة والمظروف الفارغ، يطلق عليها عبارة «بصمات باليستية» .(Ballistic Fingerprints) يعود هذا إلى أن أستون السلاح الناري يحتوي على تجويفات وعُقد صغيرة تترك علامات على غلاف الطلقة، عند إطلاق رصاصة من خلالها، يمكن استخدامها وسيلة لتحديد طراز ونوع السلاح الناري. أضف الى ذلك، يوجد داخل فوهة السلاح الناري عيوب يمكن أن تسبب صدوعاً/تشققات على الرصاصة. تلك الخصائص المنقولة من السلاح إلى الرصاصة وغلافها فريدة من نوعها، وتبدو في الواقع مثل الشيفرة، نظراً لنمط التصدعات والنقش والخدوش، حيث يمكن للخبراء تحليل هذه الأنماط من خلال إجراءات جنائية مختلفة.


180متراً في الثانية
إذا أخذنا في الاعتبار أن الرصاص المرتد لديه القدرة على الوصول إلى سرعة 180 متر في الثانية، وأن السرعة النهائية للرصاصة التي تخترق الجلد تتراوح بين 45.1 و 60.0 متر في الثانية، وأن الرصاص الذي ينتقل بسرعة أكثر من 60.0 متر في الثانية يمكنه اختراق الجمجمة، يمكن للرصاص المرتد، بالتالي، أن يسبب اختراقاً مزدوجاً للجمجمة، وليس ثقباً واحداً فقط.


أخطاء شائعة | المسار التقريبي


المسار المحدد لرصاصة هو في الواقع «تقريب» لمسار طيران الرصاصة. هذا المسار التقريبي ناتج عن دوران الرصاصة حول محورها بالإضافة إلى انعراج وانحراف مسارها مع زيادة المسافة. أضف إلى ذلك أن مسار الرصاصة يتأثر بعدد من المتغيرات التي تشمل نوع الرصاصة، وسرعتها (الأولية والنهائية)، وزاوية الانطلاق، وزاوية التأثير والمسافة، ونوعية الهدف، ودرجة الحرارة والرطوبة النسبية. وبالتالي، نادراً ما تؤثر الرصاصة على هدف ما في نفس الاتجاه بالضبط في كل مرة.