بموجب القرار رقم 3503 الصادر في 30/1/1926 عن حاكم لبنان الكبير: «يؤلف المسلمون الشيعيون في لبنان الكبير طائفة دينية مستقلة، ويحاكمون في مواد الأحوال الشخصية بموجب أحكام المذهب المعروف بالمذهب الجعفري أصبح للمذهب الشيعي قوانينه الخاصة». قضية الأحوال الشخصية إحدى أهم القضايا التي ترتبط بالحياة اليوميّة لجميع اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، ولكن الهجوم يتركّز لأسباب عدة على المحكمة الجعفرية وحدها. ما سر هذه «الخصوصية»، لو جاز التعبير؟ عندما كانت قوانين الأحوال الشخصية عند المذهب الشيعي غير مقننة منذ عهد العثمانيين، صاغ رئيس المحكمة الجعفرية عام 1994 «دليل القضاء الجعفري» الذي ينظر في قضايا الزواج والطلاق والحضانة وغيرها من المسائل، غير أن حق الرجوع إلى تفسيرات ومرجعيات مختلفة مفتوح لدى القاضي. وأمام موجة المطالبة بإنهاء أشكال التمييز ضد المرأة في المحاكم الدينية وغير الدينية، وبالمساواة والعدل، كان لا بد من مواجهات «عنيفة» مع المحاكم الدينية، بخاصة الجعفرية، إذ يرونها المحكمة «الأبخل» من ناحية السماح للطفل بالبقاء مع أمه بعد الطلاق.

أسئلة وإشكاليات
تعتمد المحاكم الجعفرية الرأي الذي يقضي بانتقال حق الحضانة من الأم إلى الأب بعد بلوغ الطفل الذكر سنتين والأنثى سبع سنوات بحسب المادة (348) من قانون الأحوال الشخصية في دليل القضاء الجعفري. تُتَّهم المؤسسة الدينية بتعاملها «الذكوري» لدى البعض، ويرى البعض الآخر أن الموضوع «معقد» أكثر مما تظهره الوسائل الإعلامية. ثمة تساؤلات عدة: لماذا لا يرفع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سن حضانة الطفل الذكر، كما رفعته بقية المذاهب الإسلامية مثلاً؟ علمًا أن هناك فتاوى كثيرة في هذا الشأن وطالما أن المذهب الشيعي من المذاهب المرنة التي أبقت باب الاجتهاد مفتوحاً؟ هل توحيد قانون الأحوال الشخصية في لبنان هو الحل وسط التركيبة الطائفية الحالية للبلد؟ ولماذا فشلت تلك الممارسات في وضع حل جذري للموضوع؟

ذكورية أم استقلالية قضاء؟
هل تقع مسؤولية الممارسات «الظالمة» على عاتق المحكمة الدينية حصراً؟ تقول فرح: «لم يتدخل أحد من المحكمة الجعفرية أو من علماء الدين عندما منعني طليقي من رؤية أولادي منذ 13 سنة».في المقابل يعلق الشيخ إسماعيل حريري، العضو في مكتب الوكيل الشرعي للسيد علي الخامنئي في لبنان، بالقول:«حق الرؤية مقدس في المحكمة الجعفرية، ولا يمكن للمحكمة أن تحرم أحد الوالدين من رؤية الطفل أبداً». ورداً على السؤال حول العقاب المفروض شرعاً إذا قام أحد الوالدين بمنع الطرف الآخر من حقه في الرؤية، يجيب حريري: «لا يوجد عقاب محدد». بدوره يرى المحامي محمد منتش أن المسؤولية والمحسوبيات وغياب العدالة في بعض القضايا يتخطى المحاكم الشرعية ليصل إلى المؤسسات المدنية. يعتبر منتش أن المشكلة الحقيقية هي في «النظام» بسبب «هيمنة السياسيين على القضاء ككل»، لأن تعيين القضاة مرتبط بالقوى السياسية الحاكمة،وهذه الاعتبارات موجودة في جميع المحاكم الدينية وغير الدينية.

مرجعيات مختلفة ومشكلات متشابهة
مع تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1967، اتصلت تبعية المجلس بمرجعية النجف في العراق، أي مرجعية السيد علي السيستاني. الاختلاف بين الآراء الفقهية كالاختلاف الحاصل بفتوى الحضانة أمر شائع وطبيعي في الوسط الشيعي لأن خلاصات دراسة كل مرجع تختلف عن غيرها. في حديث خاص مع «القوس» أوضح السيد علي فضل الله، نجل السيد محمد حسين فضل الله أن عدم تغيير الفتوى المتبعة من المحكمة يرجع إلى رأي المرجع الديني الذي يعتمد من قبل المحكمة، وقال إنه «لا يمكن تغيير الفتوى المتبعة (سنتان للذكر وسبع سنوات للأنثى) إلا بصدور فتوى جديدة في هذا الشأن، أو بوفاة المرجع المتبع، فيتم عندئذ اختيار مرجع آخر بناء على قناعة من يتولى أمر المحكمة الشرعية». ولكن المفتي أحمد طالب يرى أن فتوى السيد السيستاني مجرد «حجة» لممارسات القاضي غير العادلة، ويعلل رأيه بأن السيد السيستاني نفسه لم يقفل باب الاجتهاد في فتواه، كما أن نفس القاضي الذي يعتمد فتوى السيد السيستاني في قضية طلاق، يعتمد فتوى مغايرة لها في قضية أخرى.

المادة 998 من قانون أصول المحاكمات المدنية

يجوز حبس المحكوم عليه بتسليم ولد قاصر في حال الامتناع عن تسليمه.

وأوضح المفتي طالب أنه ليس لزاماً على القاضي الجعفري، أيّ قاضٍ في المحكمة، أن يتبع فتوى معينة لأنه مجتهد، أي هو «قادر على استنساب الحكم وليس مجبراً على الالتزام برأي ديني معين». لو كان القاضي مخيراً وحراً في اجتهاد ما يراه مناسباً، هل سيوصلنا رفع سن الحضانة إلى سيناريو بديل عمّا نحن فيه؟ ينفي المفتي الأمر لأنه يرى أن «الأمر متروك لمزاجية القاضي» الذي لا يبذل جهداً للعمل بروحية النص عوضاً عن اتباع النص الحرفي. من جهة ثانية، لا يرى السيد فضل الله أن موضوع الحضانة مجرد حكم شرعي تشريعي لأحد الأبوين بعيداً من مصلحة الطفل، لذا لا بد للقاضي أن يحدد الحضانة «بعد دراسة الظروف الموضوعية للطفل من خلال الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص من علماء التربية والنفس والاجتماع لتحديد المصلحة». يضيف السيد فضل الله أن بإمكان المرأة وضع شروطها في عقد القران، إذ يحق لها أن «تكون وكيلة عن الزوج في طلاق نفسها ساعة تشاء وعند حدوث أمر يسيء إليها ويمكن أن تشترط لنفسها حق الحضانة فيما لو حصل طلاق، أو تكون الحضانة مناصفة». وتأخذ المحكمة هذه الشروط وتعمل بها أما على الصعيد الجماعي فيرى المفتي طالب أن الحل الجماعي بسيط، ولا يحتاج إلا إلى «ملء شغور رئاسة المجلس بشخصية عادلة مثقفة تربوياً واجتماعياً وليس فقط علمياً وفقهياً».

الحوزة النسائية شريكة؟
«الوأد مش بس نحفر قبر، نحنا موؤودات ومحرومين من أقل حقوقنا الإنسانية»، تقول فرح التي ترى أن وجود قضاة عادلين في المحكمة الجعفرية استثناء وليس قاعدة. وتظهر امتعاضها تجاه غياب الصوت النسائي في المناصب الدينية. في مقابلة أجراها السيد محمد حسين فضل الله حول كتابه «دنيا المرأة»، اعتبر السيد أن المرأة هي الأكثر قدرة على تحسس مشاكل وآلام المرأة الأخرى، وما تعيشه من مشاعرَ سلبية تجاه المجتمع الذي يضطهد انسانيّتها. صحيح أن الشرع لا يسمح للمرأة أن تكون قاضياً، لكنه لم يمنع النساء العالمات بالدين والشريعة من المطالبة بحقوق المضطهدات. ترى فرح أن قبول الحوزة النسائية بالوضع القائم يصل إلى حد التواطؤ، لأن بإمكان المرأة العالمة القيام بحملات ضغط تدفع القاضي نحو خيارات عادلة، إذ «كيف يمكن أن نربي رجالاً لا يظلمون إذا لم تقم النساء بهذه الأدوار؟». يوافق المفتي أحمد طالب على الكلام ويتحفظ: «هذا الأمر ليس وارداً لأن توجيهات النساء الحوزويات قائمة على حسن التبعل الذي يمارسنه بشكل خاطئ عبر التنازل الدائم حتى عن حقوقهن».

(هيثم الموسوي)


الصحة النفسية ضحية
حاولت «القوس» الوصول إلى شخص شهّرت زوجته به وحرمته من رؤية أطفاله، لكن أفاد شخص مقرب إليه بأنه لا يرغب بالحديث عن الموضوع. هل يخجل الرجال من الظهور بشكل «ضعيف»؟ لماذا لا نراهم في وسائل الإعلام؟ تجيب المعالجة النفسية زهراء صاحب بأن الرجل ليس أقوى من المرأة سيكولوجياً، فكلاهما عرضة للاضطرابات النفسية بشكل متساو إلى حد ما، لكن المجتمع والأعراف «تربي الرجال على القسوة وعلى ضرورة المبادرات في جميع القرارات العاطفية»، لذلك يعتبر الرجل نفسه أقوى من المرأة ولا يقدم على طلب الدعم النفسي حتى ولو كان بحاجة إليه. تتزايد الصدمة النفسية أضعافاً لدى الطفل نفسه الذي يكون في طور تكوين شخصيته وبنائه النفسي والفيزيولوجي والعاطفي في عمر السنتين.
لا بد للقاضي أن يحدد الحضانة بعد دراسة الظروف الموضوعية للطفل من خلال الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص من علماء التربية والنفس والاجتماع لتحديد المصلحة

تؤكد صاحب أن هذه الفترة العمرية هي من «أكثر الفترات التي يحتاج الطفل فيها أمه لأنه بحاجة إلى أخذ إجابات عن تساؤلاته تجاه الحياة». يؤكّد حريري أنّ مكتب الوكيل الشرعي يأخذ هذا الأمر بالاعتبار و يحاول «أن يتم الانفصال بتراض وهدوء بين الوالدين للحفاظ على مصلحة الطفل ومصلحتهما».قد تختلف وجهات النظر ولكن الحرمان هو الحرمان، كما تؤكد صاحب. فحرمان الطفل من أحد والديه سيمنعه من تكوين فكرة سليمة عن العائلة، وقد يبرز عليه أعراض توتر وقلق وانخفاض في الطموح، كما يمكن أن يتدنى لديه مستوى التحصيل الدراسي. وأما بالنسبة إلى الأهل، فقد يشكل الحرمان لديهم صدمة عاطفية قوية، قد تأخذ وقتاً طويلاً للتعافي منها.



جمعيات وذكورية وأجندات...
تنقسم الجمعيات التي حاولت علاج الموضوع بين المطالبة برفع سن الحضانة عند الطائفة الشيعية ، وبين المطالبة باعتماد قانون مدني موحد للأحوال الشخصية. ولعل جزءاً كبيراً من التشتت في التصويب على تشخيص المشكلة يرجع إلى ظهور تعارض واضح بين المقاربتين. هذا فضلاً عن التشويش الذي يحدثه أثر الحديث حول الأجندات السياسية لجمعيات المجتمع المدني الممولة من وكالات الأمم المتحدة، والسفارات الأوروبية، والمؤسسات الدولية، والمنظمات غير الحكومية الدولية، وشركات القطاع الخاص الأجنبية التي ترفع هذه القضايا. تعكس الممارسات المنفصلة علاقة متوتّرة بين الحملات النسائية في لبنان، ما يجعل المقاربتين المطروحتين تصوبان بشكل دائم ومستمر على حق الطفل بالبقاء مع أمه، لا مع الشخص الذي يقدم له الرعاية الأسلم والأفضل. إضافة إلى إظهار قضايا الحضانة إعلامياً على أنها خلافات شخصية بين الأم والأب وربطها بالتعامل الذكوري من دون تقديم أي مقاربات منهجية وموضوعية وقانونية للأمر. وفقاً للمتضررات، لا يمكن لوم النساء اللواتي يشهرن بالرجال والطائفة، لأنهن يائسات من مساعدة أي شخص، «في ناس بقولوا الجمعيات بيقبضوا. صراحة آخر همي، عالقليلة بيقبضوا وبيساعدوا». لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من المسؤول المباشر عن متابعة قضايا النساء المضطهدات في مجتمعاتنا؟ وكيف نشأ هذا الفراغ ليتيح فرصة ملئه لجمعيات مدعومة دولياً بهذه الطريقة؟ قد لا يعجبنا كلام فرح أو غيرها من المتضررات، ولكن أليس أولى من الامتعاض أو الرضا تقديم البديل؟


تصدّر المحكمة الشرعية الحكم بالرؤية، فيأخذه صاحب المصلحة إلى دائرة التنفيذ التي بدورها، وعبر النيابة العامة الاستئنافية، تستعين برجال قوى الأمن لتطبيق الحكم. هنا يمكن أن تدخل المحسوبيات السياسية ليسجل الشخص المطلوب «متوارياً عن الأنظار»، فيتعذر تطبيق الحكم، ويحرم أحد الوالدين من رؤية الطفل بعد أن تتوقف ملاحقة الحاضن القانونية.


قانون مدني موحّد؟
تنوعت طروحات «قانون مدني موحد» للأحوال الشخصية، إلا ثمة إرباكاً يبرز دائماً: هل سيكون القانون اختيارياً أم إلزامياً؟ يعتقد الناشطون الحقوقيون أن القانون الاختياري لن يحل الأمر، بل سيجعل من المواطنين الذين يختارونه «طائفة جديدة». ويعللون بأنه لا يمكن للقانون الصادر عن السلطة الاشتراعية أن يكون اختيارياً، أي إن موافقة السلطة الاشتراعية عليه تقتضي بأن يصبح القانون المدني إلزامياً، والقانون الديني اختيارياً. إحدى أحدث اقتراحات القانون المدني للأحوال الشخصية روجت له منظمة «كفى»، وتضمن:
-يطبق القانون على اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين في الأراضي اللبنانية و تطبقه المحاكم المدنية حصراً
- يكتسب الأولاد الجنسية اللبنانية من والدهم أو والدتهم اللبنانيين بعد تسجيل الزواج
- سن الزواج القانوني للذكر أو للأنثى 18 سنة مكتملة
-يمنع أحد العاقدين من إتمام الزواج إذا كان أحدهما مرتبطًا بزواج سابق قائم
- اختلاف الدين بين العاقدين لا يشكل مانعًا للزواج
- يكتسب أي من العاقدين الجنسية اللبنانية في حال ارتباطه بلبناني أو لبنانية
-يلتزم الزوجين بالإنفاق المشترك على الأولاد وعلى البيت وعلى بعضهما وعلى من يقيم معهما في المنزل، كل بحسب قدرته
-يعتبر المنزل الزوجي مشتركًا ولا يجوز قسمته أو التصرف به إلا بعد وصول الأولاد إلى إنهاء دراستهم والوصول إلى مرحلة الكسب
-لا يقع الطلاق إلا بعد حكم صادر عن المحكمة المدنية المختصة
-يمكن لأحد الطرفين المطالبة بالطلاق للأسباب التالية: الخيانة الزوجية، العنف الأسري، الحكم بالسجن مدة تزيد عن ثلاث سنوات بجرم شائن، الترك الفعلي لمدة تزيد عن ثلاث سنوات. وفي حال حصل الطلاق لهذه الأسباب يحق للمتضرر المطالبة بالتعويض.
-السلطة الوالدية على الأولاد مشتركة بين الأهل طيلة فترة الحياة المشتركة وحتى بعد الانفصال، إلا إذا رأت المحكمة أن الحالة تستوجب إجراءات مخالفة.
حاليًا لا يوجد أفق لإقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية في البرلمان اللبناني. فلو استثنينا خطاب المنظمات التوعوي تجاه فعالية هذا الطرح، لغاب عن المشهد أي خطاب ثابت آخر، وأي مواجهة قانونية مستمرة تقنع الناس به. تعليقاً حول أهلية القانون المدني لحل مشكلة الحضانة، يطرح منتش هذه الإشكالية: «إذا كان لديك مشكلة حقيقية في فساد النظام، تجعل تحقيق العدالة صعباً، ما الذي يضمن أن يطبق قانون مدني عادل وسط الفساد المستشري؟ فهل يطبق القانون المدني العادل في المحاكم المدنية الآن؟»