مرّت أربعة أشهر على فرار محمد من الخدمة في إحدى ثكنات بيروت. الهروب كان وسيلته لإلغاء أعباء الانتقال من مكان سكنه في الجنوب إلى مكان عمله. إذ إن أجرة الطريق كانت «تأكل» 800 ألف ليرة شهرياً من راتبه البالغ مليوناً وأربعمئة ألف ليرة، «يعني إيجار الطريق مع جرّة غاز بـ 300 ألف ليرة... طار المعاش». عاد إلى مهنته الأصلية. «مدخول ورشة واحدة يكفيني شهراً. وإذ لم أحصل على ورشة أعمل بالأجرة اليومية مقابل 200 ألف ليرة». يحاول الشاب العشريني عدم التفكير بمسألة إلقاء القبض عليه من قبل الجيش، لكن «لأنني بلا واسطة قد يطول التسريح. حتى لو ألقي القبض علي قبل ذلك سأعاود الهرب».
أما حسين الذي لا يزال في وظيفته، فقد عاد في «مأذونياته» إلى مهنته الأصلية كـ«ميكانسيان»، لتأمين متطلبات أولاده الثلاثة. لكنه لا يستطيع ترك الجيش للسبب نفسه الذي جعله يختار هذه الوظيفة، أي قرض الإسكان والضمان الصحي لوالديه، فضلاً عن أن 17 عاماً في الوظيفة «حرام أن تذهب سدى من دون تأمينات التقاعد وغيرها».
ما تروّج له السلطة عن مساعدات ليست إلا «مسكّنات» لأزمة ربما لم تبلغ ذروتها بعد
على عكس محمد وحسين، ليس لدى محمود مهارة تتيح له الهرب من وظيفته. وهو بعد 7 سنوات في الخدمة، يقف أمام نفق مظلم خائفاً أن يخطو لتأسيس مهنة جديدة يجهل مصيرها في ظل الأزمة.
نماذج الهاربين من القطاع العام كثيرة، من بينهم الأساتذة. تركت عبير وظيفتها معلمة في إحدى الثانويات الرسمية في الجنوب، واختارت بعد 13 عاماً الهجرة بعدما تمكن زوجها، الضابط في الجيش، من الحصول على فرصة عمل في فرنسا. «هنا، لا أمل ولا مستقبل. أطفالنا يستحقون الأفضل بعيداً عن هذا البلد».
تتشابه قصص الهاربين. الكل يسعى نحو تلبية حاجاته المعيشية. معدلات البطالة ترتفع، ومن يتمكن من الهجرة سيفعل سواء في القطاع العام أو الخاص، أما ما تروّج له السلطة عن مساعدات فليست إلا «مسكّنات» لأزمة ربما لم تبلغ ذروتها بعد.