من الملفات الخلافية الحادّة حالياً، وجهتا نظر متعارضتان كلياً حول موقعين مارونيّيْن: حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. قد يكون السؤال القديم الذي يتجدّد عند كل محطة سياسية، ما إذا كان انتقادهما يتأتّى من كونهما موقعين مارونيين فحسب، أم بسبب حساسية الموقعين في حدّ ذاتهما وما يدور حولهما من التباسات ونقاشات واتهامات. علماً أن حملات الدفاع عنهما تبدأ، بالدرجة الأولى، من ربط استهدافهما بانتمائهما الطائفي والمذهبي. واستطراداً، كيف يمكن قراءة موقف الحزب منهما في ظل انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة؟فتح تصويب التيار الوطني الحر على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المعركة الرئاسية من باب المصرف المركزي. ليس باعتبار الحاكم مرشحاً، رغم أن بعض المحيطين به لا يزالون يزيّنون له ذلك، لكن من باب تجميع الأوراق الانتخابية نيابياً ورئاسياً. لن تكون الإطاحة بالحاكم اليوم سهلة، ليس بفعل القضاء وحده أو لتعذّر جمع الموافقات المحلية المستعصية، إنما أيضاً بفعل حماية واشنطن التي لا يحتاج مرشح التيار، رئيسه النائب جبران باسيل، اليوم إلى مزيد من استفزازها. فباسيل الذي استعاد الحرارة مع الأميركيين عبر تعويم النائب الياس بو صعب من باب الترسيم البحري، أقصى ما يريده اليوم إضافة ملف آخر يحمل تبعات إضافية على أبواب الاستحقاقات الداهمة. لكنّ إبقاء التلويح بإقالة الحاكم ومحاسبته ملف قابل للاستثمار، ويعطي لحملات الترشيح جاذبية شعبية، بعدما فقدت تبريرات التيار حول عدم مسؤوليته عن التجديد لسلامة وقت كان لديه مرشح من «أهل البيت»، صدقيّتها.
مع 17 تشرين، بدأ الكلام الفعلي ضد سلامة من شرائح لا علاقة لها بحزب الله، تزامناً مع إجراءات المصارف وانهيار سعر الليرة. لم يبدأ الكلام عنه فالعلاقة بين الحزب وحاكمية المصرف لم تكن، في السنوات الماضية، بالسوء الذي يتصوّره البعض. لا بل هناك كلام سياسي ومصرفي، منذ بدأت العقوبات الأميركية على شخصيات في حزب الله، عن أن حاكم مصرف لبنان الذي يُطلع الأميركيين على كل شاردة وواردة، كان يقارب مسألة الحزب وأقنيته المالية بتنسيق معروف، بخلاف بعض الانطباعات. ومنذ أن انفجر الخلاف الشعبي، قبل السياسي حول أداء سلامة، لم يكن الحزب يتخذ مواقف متشدّدة منه ولا طالب بإقالته. وأقصى ما وصل إليه قوله له: «مبرّر وجودك أن تحمي العملة الوطنية، وإذا لم تستطع فما معنى بقائك؟». علماً أن قوى سياسية من خصوم حزب الله ظلّت، إلى وقت قريب، تعتبر أن الحزب لا يزال يغطي سلامة لاستفادته منه، وأنه لن يبادر إلى طرح إقالته، ولا سيما في ضوء عدم اتفاقه والرئيس نبيه بري على ذلك، أو على الأقل إلى أن تقوم بذلك، بجدية، قوى مسيحية، وتحديداً التيار الوطني الحر، علماً أن الحزب يدرك أن التيار، وإن فتح معركة التضييق على سلامة، لن يذهب بها إلى حد طرح إقالته على طاولة مجلس الوزراء. في المقابل، لا يزال معارضو الحزب يرون أن كل تصويب إعلامي أو سياسي، وهو تصويب معدود على الأصابع، على حاكم مصرف لبنان والقطاع المصرفي مصدره حزب الله، أياً كانت هوية الذين يتهمون سلامة بارتكاب جرائم في حق جميع اللبنانيين.
هناك فئتان من المسيحيين لا تزالان تدافعان عن سلامة: المستفيدون منه وهم كثر، وفئة قليلة تعتقد حقيقة أنه يتعرض لحملة من حزب الله على خلفيات تتعلق باستهداف القطاع المصرفي الذي «بناه المسيحيون». وجاء كلام رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد عن القطاع المصرفي ليؤكد شكوك هؤلاء. في وقت لم تُسجل منذ أكثر من سنتين أي محاولة جدية من القوى المسيحية، ومنها المعنية بالقطاع المصرفي، للقيام بإجراءات تحول دون انهيار هذا القطاع الذي لا يزال مغطى مسيحياً، سياسياً ودينياً، كما يغطيه تيار المستقبل والرئيس نبيه بري. في حين يواصل هذا القطاع الامتناع عن تأمين مستحقات المؤسسات الكنسية والدينية وموظفيها أسوة بغيرهم من المودعين، باستثناء قلة من المحظيين من رتب كنسية وعسكرية ومدنية.
لكن تزامن انتقاد حزب الله للجيش مع ارتفاع وتيرة الكلام عن القطاع المصرفي يجعل الأنظار تتوجه إلى الموقعين على أساس أن استهدافهما ليس مجرد أمر ظرفي، بل له علاقة بمستقبل ما يُرسم للبنان، ورغبة الحزب في فرض إيقاعه على القطاعين المالي والعسكري. والكلام، على لسان الأمين العام السيد حسن نصرالله، عن النفوذ الأميركي في المؤسسة العسكرية، فُسّر تلقائياً بحملة استباقية رئاسية، على وقع تساؤل عما إذا كان كلامه رسالة إلى قائد الجيش أم إلى الجيش كمؤسسة ومعها الأميركيون. والمفارقة أن هذا الكلام الذي طاول الجيش، لم يثر حساسيات لدى الفريق الذي عادة يتماهى مع المؤسسة العسكرية وتحديداً التيار الوطني الحر، فيما انبرى للدفاع عن الجيش خصوم حزب الله. وجاء كلام رئيس الجمهورية ميشال عون حول الوفد العسكري المفاوض وردّ رئيس الوفد السابق العميد بسام ياسين، ليعيد الإضاءة على موقف الرئاسة من الجيش في وضعيته الحالية ومعروف مدى التوتر بينهما، خصوصاً في ضوء تسليم وزير الدفاع السابق التفاوض باسم رئيس الجمهورية، وهو الذي عُرف بعلاقة أقرب إلى السيئة مع قيادة الجيش.
لا يضير قائد الجيش أن يصوّب عليه الحزب أو التيار في تقديم أوراق اعتماده عربياً ودولياً


المشكلة في مقاربة علاقة الحزب بالجيش أن خصوم الحزب مصرون على وضعها في خانة استهداف الموقع الماروني، من دون الأخذ في الاعتبار إشكاليات أخرى تتعلق بالعلاقة مع حزب الله أمنياً وعسكرياً على مدى سنوات. والقضية لا تتعلق فقط بثلاثية جيش وشعب ومقاومة. يعرف الأميركيون واللبنانيون أن هناك تنسيقاً بين الجيش وحزب الله يتعدى الوضع الأمني الداخلي ليطاول الحدود المشتركة مع سوريا، قبل عملية فجر الجرود وبعدها. وبعض الذين ينتقدون اليوم موقف حزب الله من الجيش هم أنفسهم كانوا، إلى وقت قصير، يعتبرون أن مستوى التنسيق العسكري مع حزب الله مرتفع الوتيرة. من هنا يصبح توجيه حزب الله رسالته إلى الأميركيين الذين أبدوا أخيراً في واشنطن ملاحظات على أداء قائد الجيش (ليس لجهة التنسيق الكامل معه) وهو العارف تماماً ماذا يدور في أروقة اليرزة وخارجها، أقرب إلى الواقع منه من أن يكون رسالة رئاسية تصبّ في صالح خصوم حزب الله، وخصوم قائد الجيش وطموحاته الرئاسية، ولا سيما التيار الوطني الحر. لكنّ بازار الاستثمار الرئاسي يفتح الشهية اليوم على وضع كل الملفات الحساسة في سلة واحدة. فالترسيم البحري استعاده قصر بعبدا من الجيش، لأسباب رئاسية تعيد وصل ما انقطع بين الرئاسة والتيار ضمناً مع الأميركيين. وحزب الله الذي لم يكن بعيداً عما كان يحضر في هذا الملف من جهة الجيش، يعرف مدى العلاقة بين الجيش والأميركيين، ومدى الترويج لها من باب رعاية الأميركيين للمؤسسة، في ظل أي قائد لها، وهو أمر خبره الحزب في السنوات الماضية. لكنّ حسابات الرئاسة قد لا تكون من طرف واحد، أي من جانب الحزب، فالجيش تعاطى مع رسالتَي حزب الله وبعبدا بصمت علني، مع إيحاءات متكررة بالتزامه قرار السلطة السياسية رغم اقتناعه التام بملفه التقني. لكن، فعلياً، لا يضير قائد الجيش أن يصوّب عليه الحزب أو حتى التيار، ففي ذلك ملامح رئاسية إضافية تضاف إلى ملف تقديم أوراق اعتماده عربياً ودولياً.