في وقت لا تزال فيه فضيحة الشهادات الجامعية المزورة وفضائح الجامعات ــــ الدكاكين ومخالفاتها الأكاديمية والقانونية (فروع واختصاصات لم تحصل على إذن مباشرة) مفتوحة، ورغم توصيات مجلس التعليم العالي السابق بـ«إقفال الفروع الجامعية التي لم تحصل على ترخيص قانوني والطلب من الجامعات تبرير التسميات الأجنبية التي تتخذها لنفسها وتضلّل بها الطلاب»، يقرر وزير التربية والتعليم العالي، عباس الحلبي، أن يقفز فوق كل ذلك، وأن يكفّر عن ذنوب تلك الدكاكين ــــ ومعظم أصحابها من المحظيين ــــ ويشرعن مخالفاتها، كأن شيئاً لم يكن.هكذا، وبلا أدنى اعتبار لجودة التعليم العالي، نسف الحلبي كل ما دوّن في محاضر مجلس التعليم العالي السابق، ليبدأ حركة «إصلاحية»... بالعكس. بدا ذلك واضحاً من «الشؤون التربوية» التي حمّلها جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء العادية، أمس، ونصفها مشاريع مراسيم تستهدف الترخيص لفروع جغرافية وبرامج جديدة لجامعات في دائرة الشبهة.... وقد أقرّت رغم ذلك. من بين تلك المشاريع: مشروع مرسوم يرمي إلى الترخيص للجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (MUBS) باستحداث فرع جغرافي في راشيا، وآخر يرمي الى الترخيص للجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا (AUST) باستحداث فرع جغرافي في بحمدون، وثالث يرمي إلى الترخيص لـ«جامعة المدينة» باستحداث برنامج بكالوريوس ــــ دبلوم مهندس وماجستير في الهندسة المدنية في كلية الهندسة وتكنولوجيا المعلومات، ورابع يرمي إلى الترخيص لـ«جامعة العزم» باستحداث عدة برامج.
سار الحلبي مسار السلف، طارق المجذوب. ولئن كان الأخير قد عطّل مجلس التعليم العالي السابق بسبب رفض الأخير تغطية مخالفات عشرات الدكاكين الجامعية، حاول الأول أن يطوّع المجلس الجديد، فكانت أولى البواكير المشاريع ــــ المراسيم التي تكاد تكون أشبه بالتكريم. فبدل متابعة التحقيقات في ملفات الجامعات التي تزوّر الشهادات (آخرها فضيحة تزوير الشهادات لمئات الطلاب العراقيين التي تجري لفلفتها)، وإقفال فروعها المخالفة التي تنبت كالفطر في عدد من المناطق، اتخذ الحلبي قراراً بترخيص فروع جديدة لها.
وإذ يأخذ البعض على «بند الشؤون التربوية» الوارد في جدول أعمال جلسة الحكومة أنه راعى التوزيع الطائفي، إلا أن آخرين يرفضون تقزيم القضية إلى تلك الحدود. إذ إن هذا الأمر ليس غريباً في بلاد تغرق في خطاياها الطائفية. لكن الأزمة تكمن في مكان آخر: في قبول وزارة التربية والتعليم العالي الضمني بالاستمرار في مسار التراجع نفسه في التعليم العالي من خلال تشريع المخالفات. وهو المسار الذي يستتبع حكماً بالسؤال الآتي: أيّ خريجين تطمح إلى تخريجهم اليوم؟ وأيّ مستوى من التعليم العالي تريده؟
فتحت «مكرمة» التربية الباب واسعاً على جملة من الهواجس التي يطلقها بعض المعنيين بالقطاع. تقنياً، يسأل هؤلاء عما آلت إليه حال المخالفات التي وثّقتها سابقاً تقارير اللجنة الفنية في المجلس، والتي يفنّد أحدها مخالفات جامعتين تطلبان اليوم ترخيصاً لفرعين. فمثلاً، يذكر أحد تقارير اللجنة الفنية أن الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا التي تطلب الترخيص لفرعها في بحمدون «استأجرت أقساماً من مبنى الفرع كمحال تجارية»، فيما خالفت الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم القانون، عبر استثمار مبنى الجامعة، فرع راشيا (وهو الذي تطلّب ترخيصه اليوم) لعشر سنوات، «فيما الشروط القانونية تنصّ على ألّا تقل مدة الاستثمار عن 25 عاماً». ولأن «شيئاً لم يتغيّر في تلك المخالفات»، ما الذي يدفع الوزير إلى تسوية الأوضاع بتلك الطريقة؟
استعصاء الجواب يدفع البعض نحو سردية التراجع الدراماتيكي في التعليم العالي. إذ يورد هؤلاء بعض «الخطوط الحمر» التي يجري تجاوزها، حتى من القيّمين على جودة هذا القطاع، وأهمها ما يتعلّق بالمستوى المطلوب من هذا التعليم ومحاولات الإصلاح المعكوس اليوم.
ولئن كان المقصود من تلك الخطوط الحمر ليس «إلغاء» الجامعات المخالفة بالمطلق، وإنما العمل على «الإصلاح انطلاقاً من تحديد الأولويات». فإن ثمة خلطاً في الأولويات، إذ بحسب معلومات بعض المعنيين في المجلس، «الترخيص ليس أولوية، وإنما الأولوية تكمن في تطوير هذه الجامعات لقدراتها وتحسين مستوياتها في الاختصاصات الموجودة لديها... وبعدها لكل حادث حديث». وتطوير القدرات هنا هو تحسين الأداء ضمن إطار الاحتياجات الوطنية، أي ما يحتاج إليه سوق العمل، وهذا يعيد سيرة التوجيه الغائبة بالمطلق في التعليم العالي، حيث تعجّ السوق بخريجين عاطلين من العمل من اختصاصات جامعية محددة.
بعض الجامعات سُمح بفتح فروع لها رغم أنها لم تسوِّ مخالفاتها


«لا توجيه سليماً». هذا ما يقوله بعض من هم في صلب التعليم العالي، من الواقع الذي يسمح لعدد من الجامعات ــــ الدكاكين بتخريج المئات سنوياً في مراحل جامعية واختصاصات لم تصل لها الجامعة اللبنانية، وهي الجامعة الأكبر. فماذا يعني مثلاً أن يكون عدد الملتحقين بمعاهد الدكتوراه الثلاثة في الجامعة اللبنانية 185 طالباً، فيما عدد المسجلين في إحدى الجامعات الخاصة خلال فترة خمس سنوات «3 آلاف طالب من جنسية واحدة؟». والسؤال الآخر هنا: «أيّ خريجين تطلقهم تلك الجامعات؟ ولأيّ سوق عمل؟».
في الجزء الذي يستتبع هاجس سوق العمل، ثمة قضية أخرى لا تقل أهمية تتعلق باستسهال «بناء» الاختصاصات. وتشمل المآخذ هنا الاختصاصات التي لها علاقة بحياة الناس من الهندسة إلى الصحة. إذ شهدت السنوات الأخيرة غياب المعنيين، ولا سيما نقابات المهن الحرة، عن مناقشة الترخيص لتلك الاختصاصات. ويورد أحد خبراء التعليم العالي أن «عدداً لا بأس به من اختصاصات كليات الهندسة والعلوم الصحية قام في غياب نقابات المهن المعنية التي لها رأي أساسي بكل ما له علاقة بالاختصاص». ويسأل: «كيف يمكن أن يدخل طالب إلى كلية الهندسة من دون أن يخضع لامتحان قبول، أو كيف يمكن أن تنشأ كلية هندسة من دون مختبر مكتمل أو بمختبر وهمي كما حصل في إحدى الجامعات؟ وكيف يمكن أن تخرّج كلية علوم صحية أو طب طالباً من دون أن يكون لديها على الأقل مركز صحي أو مستشفى جامعي؟».
مع ذلك، لم تلغ مشروعية هذه الأسئلة الحسابات في وزارة التربية التي اختصرت وظيفتها بتسوية المخالفات، بدلاً من البحث في أدراج لجان المجلس النيابي للإفراج عن مشاريع قوانين لم تقرّ إلى الآن، وهي الوحيدة القادرة على إعفاء التعليم العالي من دفع الثمن. والإشارة هنا بالتحديد الى مشروع قانون إنشاء «الهيئة اللبنانية لضمان جودة التعليم العالي» العالق في مكان ما في المجلس منذ عام 2012، وقبله بعامين مشروع قانون «هيكلية المديرية العامة للتعليم العالي». فأين تكمن الأولويات؟



التعليم العالي: مشروع مدرّ للربح؟
في معظم دول العالم، المتقدمة منها، لا يعدّ «مشروع» التعليم العالي مشروعاً مربحاً ويدرّ المال، إذ تحسب هذه الأخيرة التعليم العالي كمشروع تنموي تقوم به الدولة. ولئن كانت الجامعات العريقة تسدّ حاجتها للربح ببيع المعرفة [براءات الاختراع مثالاً]، تجنح العقلية اللبنانية نحو... «بيع العلم». ففي لبنان، يعدّ التعليم العالي مشروعاً مربحاً من باب الأقساط الجامعية. أما كيف تسير الأمور؟ يشير أحد خبراء التعليم العالي إلى أن «الجامعات كي تربح تعمد إلى وضع رزم من التحفيزات والتسهيلات على الأقساط لجذب الزبائن الطلاب إليها، وكلما زاد الزبائن، زادت الحاجة إلى الأساتذة، حيث تعمد هذه الجامعات إلى جذب أساتذة بمستويات أقل، ويستدعي ذلك تالياً الدخول في المرحلة التالية، وهي افتتاح الفروع والعودة بالدورة إلى المرحلة الأولى». وهكذا، تكبر تلك الدكاكين، والتي ينتج من تداعياتها ما يجري اليوم في القطاع.