قبل أربع سنوات، وقف رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على المسرح، مصحوباً بطبل وزمر، للإعلان عن مرشحيه الى الانتخابات النيابية. نصح «الحكيم» يومها الناخبين بالاقتراع للأفعال لا للأقوال، ولمن يعرف كيف يحلّ مشكلة السير بين نهر الموت ونهر الكلب. بعد عام ونصف عام، عقب أحداث 17 تشرين 2019، وجد جعجع بالفعل «الحلّ السحري» لمشكلة الأوتوستراد: بناء جدار من الباطون داخل نفق نهر الكلب، وإحراق دواليب على طريق نهر الموت ــــ جلّ الديب. هكذا قُطع السير نهائياً وانتهت مشكلة الازدحام! يومها، أيضاً، شدّد على ضرورة «محاسبة» السلطة (وكان ممثلاً بثلاثة وزراء في الحكومة)، وبعد انتهاء الانتخابات تبيّن أن «المحاسبة» تعني أن «يزبّط» حساباته مع السلطة، فدخل الحكومة بأربعة وزراء (غسان حاصباني، كميل بوسليمان، ريشار قيومجيان ومي شدياق)، قبل أن يقفز من المركب، عشية 17 تشرين، موهماً اللبنانيين بأنه «أبو الثورة»، بعد إيهامهم لفترة طويلة بـ«نظافة» وزرائه وحدهم دون غيرهم. في الانتخابات المقبلة، يواصل «الحكيم» بيع الأوهام الانتخابية لجمهوره وللبنانيّين، من وهم خفض سعر صرف الدولار، إلى وهم قيادة «معركة إنقاذ لبنان وشعبه»، مستنداً إلى وهم هرولة ناخبي سعد الحريري للتصويت لحزبه... كل ذلك، استناداً إلى وهم متضخّم حول قدرة «التسونامي» القواتي على اجتياح لبنان من أقصاه إلى أقصاه، فيما الواقع أن «الجمهورية القوية»... قوية فقط بأصوات حلفائها. أما بقوتها الذاتية، فهي بالكاد قادرة على المحافظة على ما نالته في الانتخابات الماضية، مع افتراض إعادة 14 آذار الى الحياة، وأن ينزرع حبّ «الحكيم»، فجأة، في نفوس جمهور الحريري

التاريخ يكرّر نفسه مع سمير جعجع. تماماً كما «نظّفت» قواته سابقاً المناطق «الشرقية» من كل صوت معارض ليُحكم الخناق على أهلها، نجح في «تنظيف» الساحة «السيادية» من كل الحلفاء لتخلو له وحده: سعد الحريري أقفل عائداً إلى الإمارات العربية المتّحدة لمتابعة أمور «البيزنس» غير مبالٍ بالانتخابات ولا بمن ينتخبون؛ ووليد جنبلاط الذي أحرق كل مراكبه مضطرّ لوضع يده في يد خصمه الذي أخرجه من دير القمر منذ نحو 40 عاماً، قبل أن يعاود الدخول عليه من باب الرياض العالي. أما بقية «السياديين»، فالاتكال على المموّل الأجنبي لدفعهم إلى الحضن القواتي. هكذا، فإن «الانتخابات، في الدرجة الأولى، ستكون لمصلحة القوات اللبنانية، وفي الدرجة الثانية لمصلحة مستقلّين عندهم السياسة نفسها، وعلى الجهتين نحن رابحون»، كما صرّح «الحكيم» مطلع الشهر الماضي لوكالة «رويترز».
«لحظة تاريخية» هي التي يراهن عليها «الوكيل الحصري» للسعودية في لبنان من أجل تعبيد الطريق أمامه إلى أكثرية برلمانية تحقّق له حلم الرئاسة. لكن، بعيداً عن الدعم السعودي المفتوح لـ«الحالم» بنزع سلاح حزب الله، وبوراثة جمهور الحريري، ما هي القوة الانتخابية الفعلية للقوات اللبنانية على الأرض؟
في دائرة الشمال الثالثة (زغرتا - بشري - الكورة - البترون)، وحدها، يمكن الحديث عن قوة للقوات مكّنتها من إيصال 3 مرشحين إلى البرلمان، اثنان منهم في بشري، المعقل الرئيس لـ«الحكيم» وحيث ثمّة مقعد محجوز دائماً للنائبة ستريدا جعجع، والثالث في البترون حيث نال النائب القواتي فادي سعد، في الدائرة كلها، 11579 صوتاً، في مقابل 37,376 صوتاً للائحة «نبض الجمهورية القوية»، أي ما يوازي ثلاثة حواصل وربع حاصل. وفي أحسن الأحوال، في حال تحسّن وضع القوات في الانتخابات المقبلة بفعل أصوات المغتربين، فقد تحصل على نائب إضافي.
باستثناء ذلك، تكشف جولة على الدوائر الأربع عشرة الأخرى أن الحواصل التي يمكن أن تحصل عليها القوات بقوتها الذاتية، لا عبر التحالفات، لا تخوّلها «حكم» أكثر من «جمهورية بشري».

(هيثم الموسوي)

في دائرة الشمال الأولى، أي عكار، سبعة مقاعد، لا قدرة للقوات اللبنانية على نيل أيّ منها بقوتها الذاتية. فقد بلغ الحاصل الانتخابي في هذه الدائرة، في انتخابات 2018، نحو 19 ألف صوت، فيما حصل النائب القواتي عن مقعد الروم الأرثوذكس وهبي قاطيشا على 7911 صوتاً فقط، واحتاج إلى نحو 11 ألفاً من أصوات تيار المستقبل حملته إلى ساحة النجمة.
أما دائرة الشمال الثانية (طرابلس - المنية - الضنية)، فلا وجود أساساً للقوات فيها، ولا قدرة لها على خوض أي معركة، وهو ما دفع جعجع في الدورة الماضية إلى الإحجام عن ترشيح مستشاره للشؤون الخارجية إيلي خوري.
من الشمال إلى دائرة جبل لبنان الأولى (جبيل - كسروان) حيث بلغ الحاصل الإجمالي في الانتخابات الماضية 14452 صوتاً. في هذه الدائرة نال مرشح القوات في كسروان النائب شوقي دكاش 10032 صوتاً. فيما شكّل النائب زياد حواط رافعة للقوات بحصوله على 14,424 صوتاً استناداً إلى تجربته في رئاسة بلدية جبيل. غير أن هذا العامل لم يعد موجوداً اليوم، بعدما ارتدى حواط «الزيتي» القواتي، وبعد الكسل التشريعي والاجتماعي لولاية دكاش النيابية. أضف إلى ذلك أن القوات مُعرّضة لخسارة مقعد في هذه الدائرة مع بروز منافسين جدد كحزب الكتائب والنائب نعمة افرام والمجتمع المدني وبقايا 14 آذار الذين يشاركون القوات سلّة الأصوات نفسها.
في المتن الشمالي (دائرة جبل لبنان الثانية)، لم تتمكّن القوات في الدورة الماضية من بلوغ الحاصل الانتخابي مع نيل النائب إدي أبي اللمع 8922 صوتاً، أي أقل بـ 2400 صوت عن الحاصل (11300 صوت). وما كان أبي اللمع ليحمل اليوم لقب «السعادة» لولا «فضلات» بعض المرشحين: رازي الحاج (1018 صوتاً)، ميشال مكتف (1212 صوتاً)، جيسيكا عازار (1030 صوتاً). في الدورة المقبلة لن تعيد القوات ترشيح أبي اللمع في هذه الدائرة، وأحلّت محله الوزير السابق ملحم رياشي الذي يفترض أن يضيف على أصوات القوات كونه «لا حزبي» وناشطاً في القضاء ومخيبرياً سابقاً، إلى جانب الحاج (المدير العام لـ«مؤسسة وديع الحاج» التي تعمل على تأمين الرعاية الصحية في المتن وتنفّذ مشاريع إنمائية في القضاء) الذي ستستخدمه القوات مرة أخرى لرفع حاصلها.
في بيروت الثانية، أيقن جعجع حجم حزبه مسبقاً فلم يتكبّد عناء المعركة. أما «أشرفية البداية» (دائرة بيروت الأولى)، فقد أنهت في الدورة السابقة أسطورة التفوّق القواتي، عندما كاد النائب عماد واكيم (نال 3936 صوتاً) يسقط بفارق يصل إلى 1500 صوت لولا استخدام النائب السابق ميشال فرعون رافعة لبلوغ الحاصل (5458 صوتاً) من دون أن يفوز هو شخصياً. ورغم عدم إسقاطه إمكانية التحالف مع القوات وتقديم أصواته مجدداً لرفع المرشح الحزبي، يبدو أن فرعون يبحث أيضاً في خيارات أخرى، كتشكيل لائحة مستقلّين. علماً أن شعبيته شهدت تراجعاً بعد إقفاله مكتبه وتقليص خدماته. يعني ذلك أن الخطر يدق أبواب القوات في الأشرفية، إلا في حال نسجت تحالفاً مع رئيس مجلس إدارة سوسييتيه جنرال أنطون صحناوي كما في العام ٢٠١٨. علما أن مرشح صحناوي، النائب جان طالوزيان انضم الى كتلة «الجمهورية القوية» بداية، قبل أن ينسحب منها لتعارض السياسات والمصالح.
في زحلة، حيث الأسطورة القواتية الأخرى، عجز الحزب عن تأمين حاصل لمرشحه النائب جورج عقيص إذ نال 11363 صوتاً فيما بلغ الحاصل 13095 صوتاً. هنا، أيضاً، كان النائب سيزار المعلوف حبل نجاة القوات، علماً أنه أعلن أخيراً أنه لن يخوض الانتخابات المقبلة. النتيجة: لا حاصل للقوات في زحلة، كما أن لا حاصل لها أيضاً في دائرة البقاع الثانية (البقاع الغربي وراشيا)، حيث لا يكاد يوجد أثر لناخبين قواتيين، ولا حاصل في دائرة البقاع الثالثة (بعلبك - الهرمل) حيث نجح النائب أنطوان حبشي بأصوات تيار المستقبل بعد حصوله على 14858 صوتاً (الحاصل 18700 صوت). و«العداوة» المستجدّة بين المستقبل والقوات، وعزوف التيار الأزرق عن خوض الانتخابات، سيؤديان مبدئياً إلى خسارة جعجع نائبه في هذه الدائرة.
شعبيّة حزب القوات تمكّنه من الفوز بـ6 نواب بقوّته الذاتيّة


في دائرة جبل لبنان الرابعة (الشوف - عاليه)، يمكن للقوات، بقوتها الذاتية، تأمين حاصل لنائبها جورج عدوان، فيما حصلت على مقعد في عاليه نتيجة لائحة ضمّتها مع الاشتراكي والمستقبل ومستقلين. نتائج انتخابات 2018 تشير إلى نيل القوات حاصلاً ونصف حاصل: 9956 صوتاً للنائب جورج عدوان في الشوف و7872 صوتاً للنائب أنيس نصّار في عاليه، ما يعني ضمان مقعد واحد فقط، فيما يبقى الثاني رهن الكرم الاشتراكي. أما في بعبدا، أو دائرة جبل لبنان الثالثة، فللقوات حاصل مؤمّن بفعل أصوات القواتيين وحدهم (بلغ الحاصل في الدورة الماضية 13 ألف صوت، فيما نال النائب بيار بو عاصي 13496 صوتاً).
ولا حاجة، بالطبع، إلى شرح وضع القوات في دائرة الجنوب الأولى حيث رشّحت عجاج حداد (نال 4300 صوت من حاصل بلغ 13148 صوتاً)، ودائرتَي الجنوب الثانية والثالثة (حصل مرشح القوات في الجنوب الثالثة فادي سلامة على 2000 صوت من أصل 20 ألفاً للحاصل).
في المحصّلة، الشعبية التي يتمتع بها حزب القوات تمكّنه، بقوته الذاتية، وفي أحسن الأحوال، من الفوز بنائبين في بشري، نائب في البترون، نائب في جبيل - كسروان، نائب في بعبدا، ونائب في الشوف، أي 6 نواب فقط من أصل 15 فاز بهم الحزب في انتخابات 2018، وتقلّص عددهم إلى 13 بعد خروج شديد والمعلوف. وفي حال استعاد جعجع أمجاد تحالفات 14 آذار، بعناية الراعي الرسمي السعودي، ونسج شراكات سياسية مع قوى وازنة، فإن كتلته، في أحسن الأحوال، ستعود إلى ما هي عليه: 12 نائباً. يفترض ذلك وجود حليف سنّي قويّ في عكار، والفوز بمقعد في الكورة، والعثور على «روافع» في كسروان والمتن الشمالي والأشرفية وزحلة، والتعويل على تجيير بعض أصوات الاشتراكي له في عاليه. وهو سيناريو يؤمّن له بين 11 و13 نائباً من أصل 64 نائباً مسيحياً.